العدد 1857 - السبت 06 أكتوبر 2007م الموافق 24 رمضان 1428هـ

من «البيئة أو التنمية» إلى «البيئة والتنمية» (1)

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

خلال الثلاثين سنة الماضية تطور الفهم العام للعلاقة بين التنمية والبيئة على مستوى العالم بشكل كبير، وكذلك على أرض الواقع في الكثير من دول العالم، وخصوصا المتقدمة منها. لقد كان التقدم في التنمية في عقد السبعينات من القرن الماضي وقبل ذلك بعقود مرتبطا في أذهان الكثير من صناع القرار والسياسيين بعملية التنمية الصناعية، ويتم قياس هذا التقدم أساسا بحجم ومعدلات النمو في الأنشطة الاقتصادية وحجم الثروة. ويمكن وصف الفكر السائد آنذاك بـتعبير «البيئة أو التنمية»، حيث كان ينظر إلى حماية البيئة على أنها معوق للتنمية وبأن تحقيق هذه الأخيرة لابد وأن يكون على حساب البيئة.

في عقد الثمانينات تطور هذا المفهوم بعد أن أصدرت اللجنة العالمية عن البيئة والتنمية تقرير «برنتلاند حول التنمية المستدامة» بعنوان «مستقبلنا المشترك»، وتم عرضه على الجمعية العامة في العام 1987، ليتحول الفكر من «البيئة أو التنمية» إلى «البيئة والتنمية»، حيث برز مبدأ «التنمية المستدامة» من خلال طرح هذا التقرير العالمي، والدعوة إلى إنشاء التوازن بين التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والمحافظة على البيئة واستدامتها، والحث على النظر إلى استخدام الموارد الطبيعية بعقلانية لخدمة احتياجات الجيل الحالي من دون التضحية بـاحتياجات الأجيال القادمة. ولقد تطرق التقرير إلى العلاقة بين التنمية والبيئة ودعا صناع القرار إلى الأخذ في الاعتبار العلاقات المتشابكة بين البيئة من ناحية، والقضايا الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى، والنظر إلى قضايا وتحديات النمو السكاني، والأمن الغذائي، والطاقة، والصناعة، والنمو الحضري، وغيرها من القضايا المصاحبة للتنمية بمنظار بيئي، والحد من تأثيراتها والمخاطر الناشئة عنها على الأنظمة البيئة الحيوية وعلى استدامة الموارد الطبيعية، وبالأخص العلاقة بين الفقر والتدهور البيئي. وأوصى التقرير ببناء القدرات لتقييم المخاطر على تدهور الأنظمة الطبيعية وكذلك على بقاء وأمن الإنسان ورفاهيته.

وفي الحقيقة، فإن تقرير برنتلاند لم يكن هو أول من طرح هذه المبادئ، وإنما كان مبنيا بشكل رئيسي على نتائج أول مؤتمر عالمي للبيئة وهو «مؤتمر الأمم المتحدة حول بيئة الإنسان» الذي عقد في استكهولم في العام 1972، وكذلك تقرير «استراتيجية المحافظة العالمية» الصادر في العام 1980، واللذين تم فيهما التنبيه على ضرورة إقامة التوازن بين التنمية والبيئة، والتشديد على أن المحافظة تشمل كلا من الحماية والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية، وطرحت مبادئ استدامة التنمية فيهما بشكل غير مباشر. إلا أن الفضل يرجع إلى تقرير برنتلاند في نشر مفهوم ومبادئ التنمية المستدامة عالميا، وقيامه بتعريف التنمية المستدامة تعريفا واضحا على أنها «التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي من دون التضحية بـاحتياجات الأجيال القادمة»، كما وضح التقرير بأن مبدأ التنمية المستدامة يتضمن قيودا ومحددات مرتبطة بمستوى التقنية والتنظيم المجتمعي السائدين في التعامل مع الموارد البيئية، بالإضافة إلى قدرة النظام الحيوي على امتصاص تأثيرات الأنشطة الإنسانية عليه، وبأن هذين العاملين، أي التقنية والتنظيم المجتمعي، يمكن إدارتهما وتطويرهما لإفساح المجال للنمو الاقتصادي من دون تهديد الأنظمة البيئية.

وكان من أهم نتائج تقرير برنتلاند المباشرة انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية أو ما يعرف بـ «قمة الأرض» في ريو دي جانيرو بالبرازيل في العام 1992 والذي حضره 108 من زعماء العالم، وحوالي 2400 ممثل للمنظمات غير الحكومية وأكثر من 17000 شخص شاركوا في فعاليات موازية للمؤتمر. ولقد عززت قمة الأرض التفاعل بين الأطراف الثلاث الرئيسة في المجتمع: الحكومات والمنظمات غير الحكومية والعلميين، وساهمت في تغيير المواقف والتصرفات نحو الحاكمية والبيئة، كما أنها حثت الحكومات على إعادة التفكير في مبدأ التنمية الاقتصادية ومبدأ «النمو الاقتصادي بأي ثمن» السائد في الكثير من الدول كحل للقضايا الاجتماعية العالقة، وكذلك في النظر في الوسائل المطلوبة لوقف تدمير الموارد الطبيعية وتخفيض التلوث.

وكما هو معروف فقد نتج عن قمة الأرض الكثير من الخطوات نحو التنمية المستدامة وذلك من خلال تبني المؤتمر لإعلان ريو وأجندة القرن الحادي والعشرين (أجندة 21)، الذين مثلا الإطار المؤسسي الدولي الرسمي لتطبيق أفكار ومبادئ تقرير برنتلاند، حيث شمل إعلان ريو 27 مبدءا اتفقت دول العالم على الالتزام بها لتحقيق الأهداف التي تضمنها التقرير، والتي من أهمها تحقيق التكامل بين البيئة والتنمية في عملية صنع القرار، ودفع الملوث لكلف التلوث، والإقرار بالمسئولية المشتركة ولكن بدرجات متغايرة بين الدول، وتطبيق المبدأ الاحترازي في عملية اتخاذ القرار.

ولقد احتوت أجندة 21 خطة عمل مفصلة نحو التنمية المستدامة وشملت 40 فصلا، يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام عامة، هي القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وإدارة الموارد الطبيعية والمحافظة عليها، ودور المجموعات الرئيسية في المجتمع (الحكومات، النساء، المزارعون، الناشئة، العمال، منظمات المجتمع المدني، المجتمع العلمي والتقني، والمجتمع التجاري والصناعي) في تطبيق أجندة التنمية المستدامة، وأساليب التطبيق بما فيها نقل التقنية والتمويل والعلوم والتعليم ومشاركة المجتمع. وتضمنت هذه المجالات الأربعة التحديات البيئية وكذلك التحديات المتعلقة بالحاكمية التي ألقى الضوء عليها تقرير برنتلاند. وظلت أجندة 21 إلى يومنا هذا أهم وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة في مجال البيئة.

ولتمويل تطبيق خطة عمل أجندة 21 يمكن الحصول على الدعم المادي من مرفق البيئة العالمي Global Environmental Facility (GEF) الذي أنشأ قبل مؤتمر قمة الأرض بعام واحد بواسطة الدول المتقدمة المانحة لتمويل ودعم المشروعات التي تهدف إلى حماية البيئة العالمية. وحتى يومنا هذا قام المرفق بتوفير أكثر من 30 مليار دولار أميركي لدعم حوالي 2000 مشروع في أكثر من 160 دولة من الدول النامية في العالم وذات فائدة بيئية عالمية. وعلى رغم من هذا التقدم العالمي العام المحرز نحو تحقيق مبادئ التنمية المستدامة من خلال أجندة 21، ما زالت الكثير من دول العالم متأخرة في تطبيق خطة عمل هذه الأجندة العالمية، بل أن بعض الدول لم تعمل أي شيء يذكر في هذا المجال حتى يومنا هذا، وظلت على النهج السابق، أي تحقيق النمو الاقتصادي بأي ثمن ومن دون أي اعتبار لتبعات ذلك على البيئة والموارد الطبيعية وفرص الأجيال القادمة.

ومع انعطافة القرن برز شعور عالمي عام للحاجة الملحة للنظر في تحديات البيئة والتنمية، وفي الإعلان العالمي للألفية (Millennium Declaration) الذي تم تبنيه من قبل قادة دول العالم في العام 2000 ألتزم هؤلاء القادة بـ «تحرير مواطنيهم من التهديدات التي يتعرضون لها في العيش على كوكب يتم تدميره وتدهور بيئته بشكل متزايد بواسطة الأنشطة البشرية وبشكل لا يمكن إصلاحه وستكون موارده غير كافية لتلبية متطلباتهم». ولقد تم تبني إعلان الألفية من قبل قمة العالم للألفية في نفس العام ووضعت أهداف محددة ومرتبطة بفترات زمنية، سميت بأهداف التنمية الألفيةMillennium Development Goals (MDGs) ، لتحسين مستوى معيشة الإنسان ورفاهيته.

وكما هو معروف، وبعد مرور عامين على الإعلان العالمي للألفية، تبنى قادة العالم هذا الإعلان والأهداف الخاصة به في مؤتمر قمة العالم حول التنمية المستدامة المنعقد في جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا في العام 2002، والذي شارك فيه أكثر من 21 ألف مشارك في هذه القمة مع ممثلين لأكثر من 191 حكومة من حكومات دول العالم، أعادوا التأكيد على أن التنمية المستدامة هي هدف مركزي في الأجندة العالمية. كما حددت الأمانة العامة للأمم المتحدة خمسة مجالات رئيسة لأولويات المناقشة في المؤتمر، وهي المياه، والطاقة، والصحة، والزراعة، والتنوع الحيوي (وتُعرف هذه الموضوعات في الأروقة العالمية بـالكلمة الإنجليزية المختصرة WEHAB)، وهي نفسها الموضوعات التي قام تقرير برنتلاند بالمبادرة بالتطرق لها في العام 1987. ولقد نتج عن القمة إعلان جوهانسبرغ للتنمية المستدامة وخطة عمل تنفيذية، وألزم قادة العالم أنفسهم بتعجيل تحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في أوقاتها المحددة التي تضمنتها خطة التنفيذ، كما حققت هذه القمة التاريخية التزامات جديدة في مجال المياه والصرف الصحي، ومكافحة الفقر، والإنتاج والاستهلاك المستدامين، والمواد الكيميائية، وإدارة الموارد الطبيعية.

وفي العقود الماضية تم إنجاز الكثير من التقييمات العلمية المتعلقة بالتغير المناخي والبيئة الحيوية العالمية وحالة البيئة العالمية، كما تم تبني الكير من الاتفاقات العالمية متعددة الأطراف والتوقيع عليها من قبل الكثير من دول العالم مثل اتفاق التنوع البيولوجي وبروتوكول قرطاجنة للسلامة الحيوية، وبروتوكول مونتريال لحماية طبقة الأوزون، وبروتوكول كيوتو للانبعاثات الغازية.

ويمكن القول بأنه منذ صدور تقرير برنتلاند وحتى الوقت الحاضر تغيرت النظرة إلى البيئة بشكل كبير، وتم مناقشة طيف عريض من القضايا المتعلقة بالبيئة، وأصبحت قضايا جديدة مثل التجارة، والتنمية الاقتصادية، والحكم الصالح، ونقل التقنية، وسياسات التعليم والبحث العلمي، والعولمة والتي تربط جميع هذه القضايا مع بعضها بعضا، تحتل مواقع مركزية في مسألة التنمية المستدامة، كما أزداد عدد المنظمات غير الحكومية في الحاكمية البيئية بشكل كبير وأصبحت تلعب دورا متزايدا على المستويات الوطنية والعالمية، وخصوصا في الدول المتوجهة نحو الديمقراطية، كما أصبحت عملية صنع القرار أكثر تشاركية من قبل. ومن جهة أخرى، بدأ دور القطاع الخاص يبرز على السطح بشكل متزايد كأحد المؤثرين الرئيسين في المحافظة على البيئة. وفي وجه الطلب على المنتجات الخضراء الصديقة للبيئة بدأت الكثير من شركات القطاع الخاص بوضع مواصفات بيئية خاصة بمنتجاتها أو الالتزام بالمواصفات البيئة الموضوعة من قبل الهيئات الحكومية أو للحصول على شهادات الأيزو لضمان دخول منتجاتها الأسواق العالمية، كما قامت بعض الشركات بتحمل مسئولياتها الاجتماعية نحو مجتمعاتها وخصوصا في مجالات الفقر والتعليم والحفاظ على البيئة.

يستكمل المقال القادم تطور مفهوم العلاقة بين التنمية والبيئة وتحوله من «البيئة والتنمية» إلى «البيئة من اجل التنمية» الذي يمثل نقلة نوعية في الفكر التنموي البيئي المعاصر.

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1857 - السبت 06 أكتوبر 2007م الموافق 24 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً