العدد 1919 - الجمعة 07 ديسمبر 2007م الموافق 27 ذي القعدة 1428هـ

ما وراء الكتابة عند «الضعيف»

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

رشيد الضعيف أكاديمي وأديب لبناني استضافه مركز الشيخ إبراهيم في 29 أكتوبر/تشرين الأوّل 2007 لكي يعبّرعن رؤيته في الكتابة ويتحدّث عن خلاصة تجربته معها. يصف نفسه في إحدى المقابلات قائلا: «أنا شخص غير موهوب، مجرد عامل، وعملي هو كتابة الروايات، لست أديبا، الأديب هو مَنْ يكتب كتابة جميلة ويسعى إلى الأدب الجميل، أمّا أنا فخارج هذه الإشكالية، والرواية ينبغي أنْ تكون خارج هذه الإشكالية، باختصار لا أريد أنْ أكون أديبا، فأنا أبني عباراتي على البساطة، لا أقصد السطحية، بل البساطة الشفافة التي تكشف الأعماق، هذه رغبتي وإرادتي».

الكتابة تآمر على الواقع

يستطرد في أزمنة وأماكن متعددة ومختلفة، فيضيف: «أريد كتابة رواية تناسبني، أحبّ كتابة الرواية التي أحبّ أن أكتبها، والتي أحقّق فيها ذاتي وحريّتي، ليس عندي قواعد في هذا المضمار، والرواية الممتعة رواية سائلة ومتسائلة، والسؤال النابع من متعة قراءتها هو الهدف البعيد الذي أسعى إليه، أن يكون السؤال في قلب متعة القراءة ومكوّنا من مكوّناتها، هذا هو هدفي، لا أعتقد بوجود قاعدة في مجال ارتباط المبدع بقضية ما، وليس عندي قضيّة أستمد منها سببا لكتابتي. يستحيل عليّ الكتابة على الطلب، ولأنني أخاف أنْ أشبه ذاتي، أنوّع في الموضوعات والطرق والأساليب في محاولة لتخطّى الذات». وتتمازج آراءه هذه وتتشابك مع مضمون محاضرته التي ألقاها في مركز الشيخ إبراهيم إذ يشير فيها إلى أن زمن الأفكار التي يناضل من أجلها الأشخاص قد ولى: «أنا لا أدعو؛ لأن يخدم الإنسان فكره، والأيديولوجيا تضعف الرواية وتضعف الواقع، ولا تكون صائبة، تلك التي تهدف إلى الإصلاح فهي غير ممتعة.

لا أحب قراءة الرواية التي لا تمتعني، وحينما أكتب، لا أريد أنْ أعظ القارئ ولا أعلمه، ألفت نظره لموضوع ما، وأثير إحساسه لشيء ما، بيد إنني لا أريد إقناعه برأي، أريده أن يشك في قناعاته مهما تكن راسخة، وحلمي هو أن تقرأني والداتي الأمية وأن تتمتع بالقراءة، وأن يقرأني المثقف ويجد ضآلته!

«رشيد الضعيف» يوظف معارفه الأكاديمية في عمله الروائي، لكنه لا يلتزم بها: «الأستاذ يعلّم طلابه قواعد الرواية أما أنا الروائي، فأسعى إلى مساءلة هذه القواعد بل إلى التحرر منها إنْ كان هذا في المستطاع. أنسى النظريات التي أعتقد فيها وأعمل أحيانا ضدها. وأنا أكتب، أستسلم لعفويتي ولشيء فيّ لا أدري ما هو، أثق بلحظة انصرافي إلى ذاتي واستغراقي فيها وأحب هذه اللحظة. كأستاذ جامعي منذ ثلاثين سنة لم تخرج من فمي كلمة خدشت أذن طالب أو طالبة، أمّا في الكتابة فإنني شخص آخر، مختلف تماما. كتابتي مزعجة وقلقة، تشيرعند الكثير من القرّاء إلى المكان الذي يودّون أن يبقى بعيدا عن العين والسمع واللمس والشم، أنني أستسلم إلى تلقائيتي وأنا أكتب لا إلى النظريات التي أدرّسها أو حتى التي أؤمن بها»، «فرشيد الضعيف» يعتبر الكتابة تآمر على الواقع من أجل الوصول إليه، لكنه في الوقت نفسه لا يبشر بمدرسة في كتابة الرواية، والواقعي عنده يتداخل مع المتخيّل في أعماله، وتآمره على الواقع يتجاوز في السياق التآمر على التاريخ.

الرواية خيار التاريخ

الأدب بالنسبة إليه نوعان، الأدب الجميل والأدب الصح، والرواية تنمى حبّ الخير والجمال، وهي وسيلة لإنتاج معرفة الذات والعالم ولتأمل الذات المفردة والجميلة من خلال رؤية من نحن كأفراد وكجماعة، فسيرة الأفراد صورة عن ثقافة المجتمع وحضارته في لحظة من اللحظات، وهي مساءلة لكلّ شيء في الموروث الثقافي والمسلمات الأساسية والسلوكية والأخلاقية التي نبني عليها وعينا لذواتنا وللآخر ولعلاقتنا مع أنفسنا والآخرين وهي كشف، وقد تكون مرآة هشة لا ترينا أنفسنا كما هي، بل توهمنا بأن ما نراه هو أنفسنا وهذا خطرها. والرواية في الثقافة العربية خيار للتاريخ؛ لأنها تكتب بلغة الزمن الحاضر ومشكلاته وبالتالي تكون مرآته، بينما الشعر بالنسبة إلى الشعراء الكبار هو انحياز للمطلق، ولغة الشعر لا تاريخية إنما موازية للتاريخ، وتدعي بأن لها فعل بالتاريخ وتؤثر عليه. وعليه فالرواية مغروسة أكثر في الزمان والمكان الذي كتبت فيهما وأقرب إلى الديمقراطية، أمّا بعض الشعر الفاعل فقد كان أقرب إلى تهيئة الأجواء لقيام الاستبداد، مع ملاحظة أن بعض من الشعر الحديث قد دعا إلى الخلاص والمخلص. وعن دورها - أي الروية - في الوعي، رأى أن مشاكلنا تختلف عن رؤية الروائيين فالرواية عنده تنسج وعينا لذاتنا وللعالم شيئا فشيا وهي تشبح وعينا لذاتنا وللعالم، وللواقعية حصة الأسد فيها، والواقعية موقف فلسفي: «للواقع وجود موضوعي ونستطيع معرفته، لذا فالرواية تسعى لفهم قوانين هذا الواقع، وتفترض إننا نعرفه أو نستطيع معرفته»!

رؤية بعيون الآخر

عن القارئ لاحظ أنّ عنده حبا للتجسس على حميمات الكاتب، ومما يحفز على ذلك في كتابة «رشيد الضعيف» إنه يحب الكتابة بضمير المتكلم «أنا»: لأنني أشعر بحرية كبرى في ذلك، أشعر بحرية قصوى وأنا أتصوّر نفسي مكان شخصية روايتي، ففي قرارة نفسي أحاول دائما أنْ أرى بعيون الآخرين. لقد اكتشفت مع الأيام أنّ متعة القارئ تتضاعف حين يقرأ رواية ما، ويظن في الوقت نفسه أنه يقرأ حياة صاحبها، هنا تتكثف لذته، والإنسان بطبعه يحب «البصبصة»؛ أي اختلاس النظر لرؤية دواخل الآخرين الحميمة، ومعرفة ما يجري فيها. يكتب «الضعيف» وفي الوقت نفسه يوهم القارئ بأنه يكتب عن نفسه وعن سيرته الذاتية، هذا ما ذكره عند صدور رواية «معبد ينجح في بغداد»، فهل يعنى ذلك تنصله من ذلك الواقع؟ أمّا في «عودة الألماني إلى رشده» التي ألفها على خلفية تجربة النشاط الثقافي التي عاشها مع الكاتب الألماني (يواخيم هلفر) وذلك في إطار برنامج «ديوان شرق... غرب» الألماني، فأنه يرفع الغطاء عن علاقة الشرق مع الغرب، ويكشط كما عبر الشاعر (شوقي بزيع) عنها الجلد الخارجي، فيعالجها عبر النص من عدة مستويات، الشخصي منها حيث يلتقي رجلان أحدهما طبيعي والآخر مثليّ ضمن إطار فعالية حقيقة، والثاني ثقافي إذ نكتشف تصالحه إلى حد ما مع ثقافة الشرق (الفحل) بالمعنى اليومي الاجتماعي وعلى النقيض الغرب (المؤنث)، ويستطرد حديثه عن ثقافة الغلمان التي كانت سارية في التاريخ العربي، أما المستوى الثالث فيظهر من خلاله تعاطفه مع المثليين بمعنى إنساني بسيط يحترم طبيعتهم العفوية، واحترام إنجازات حقوق الإنسان الكبيرة في أوروبا، ومع ذلك وجد أنها تجربة مليئة بالجدليات، يعيشها الواحد بعقليتين مختلفتين، ذلك ما فتح عليه أبواب السجالات والنقد. وعنوان أي عمل بالنسبة له شرّا لابد منه، ذلك لأن العنوان كما يفيدنا يعني دعوة إلى قراءة محددة للرواية وهو غالبا ما يكون مضافا إلى الرواية لا جزءِ منها فهو اسم والاسم ليس صفة بل للتمييز.

لا تقنعني... فقط اشرح لي

إلى ذلك، نختم بما كتبه في فقدان المفكر العربي «هشام شرابي»: «هذا الوديع كعشبة ربيعية، وقف مرة عن كرسيه، ورفع صوته في وجهي قائلا بغضب:

- لماذا تريد أنْ تقنعني؟ أشرح لي رأيك فقط!

هذا ما حاول القيام به في تلك الأمسية وما عبر عنه في مقابلاته السابقة، هو أن يشرح لمستمعيه ما وراء تجربته في الكتابة وخفاياها ورأيه في تقنية الرواية والشعر، وترك الأبواب والنوافذ مشرعة للإنصات إليه والاستمتاع والالتقاء معه أو ربما الاختلاف إلى حد الاستفزاز ولاسيما من قبل قارضي الشعر ومتذوقيه

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1919 - الجمعة 07 ديسمبر 2007م الموافق 27 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً