العدد 2028 - الثلثاء 25 مارس 2008م الموافق 17 ربيع الاول 1429هـ

رهانات اليسار العربي (2)

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

تساءلنا في المقال السابق المنشور أمس عن إذا ما كان هناك المزيد المتعلق بظاهرة اليسار العربي التي دفعته إلى التغاضي عن ممارسات الأنظمة الاستبدادية، والذعر الشديد من وصول الأصوليات المكفّرة إلى مراكز سلطة القرار، ومبالغتهم في الرهان على الأميركان ومشروعهم الإصلاحي الديمقراطي لإدماج الشرق العربي في منظومة الحداثة.

تربية حزبية تعتمد التعظيم والتبجيل والتعالي

التربية الحزبية هي مظهر من مظاهر التكوين التنظيمي التي تتبعها الباحث شوكت اشتي في دراسته نموذج الحزب الشيوعي اللبناني، وهي التي أوصلته إلى وجود اهتمام بتكوين الوعي الفكري والسياسي وتنمية الإحساس عند المحازب (عضو الحزب)، استنادا إلى أسس موضوعية ثابتة وقوانين علمية راسخة تجعل الإطار الفكري للحزب ومضمونه الطبقي ومنطلقاته المنهجية ومنظومة الأدوات المفهومية «مذهبا» إيمانيا إطلاقيا قائما بذاته، يتصف بالكونية والشمول ويصلح لكل زمان ومكان ويحاط بهالة التعظيم والتبجيل والقداسة على رغم أن المنطلقات بحد ذاتها - كما يحلل - ترفض الجمود والتقوقع ولا تقرّ بالثبات والتحجر.

لعب بذلك الحزب دور الكاهن على رعيته ودور القائد والمرجع الروحي، فكانت النصوص تقدم بصفة مقولة جامدة رفعت الفكر الفلسفي السياسي إلى مصاف «الدين»؛ مما جعل التربية الحزبية في جوهرها تتخذ اتجاها معاديا للآخر غير الخاضع لتفسير المرجع وتعليماته. فالحزب يرى الواقع على الصورة التي يريدها ويرغب فيها فيسقط عليه تحليلاته ويحدد حركته وتطوره بالاتجاه النظري الذي يبشر به.

هذا طبعا يعطل عملية الحوار والتفاعل والجدل سواء على الواقع المجتمعي ومتغيراته أو مع التشكيلات السياسية القائمة، يضاف إليها الميل إلى الاستعلاء على الآخرين وتهميش دورهم وأفكارهم وتصوراتهم، باعتبارهم لا يمتلكون مصادر المعرفة وقوانينها. فالتربية هنا تنمي الشعور بالتمايز من الآخر بالاتجاه السلبي والمتعالي، كما أن هناك تهميشا لحق الاختلاف والتنوع وحرية التعبير والمعارضة في صفوف الحزب (انظر كتاب «الشيوعيون والكتائب» لاشتي، ص 278-286).

الأوليغارشية البيروقراطية

بعد المتغيرات الدولية التي تمخضت عن سيادة العولمة وانهيار منظومة الدول الاشتراكية، وما خلفته من آثار بليغة على الصعد الفكرية والسياسية لقوى اليسار العربي، وبتأثير من تداعيات حروب الخليج الأولى والثانية والثالثة ونتائجها، وحال التأزم للنظام السياسي العربي تجاه قضايا العصر والأمة المترافق مع بروز تيار الإسلام السياسي وميل المجتمعات العربية عموما إلى حالة التدين والتأسلم والانكفاء على الذات مقابل الخطاب المعلوم ومشروع الشرق الأوسط الجديد؛ مما حدا بالكاتب عبدالإله بلقزيز - (انظر: «الحزبية في المغرب بين النقد والعدمية السياسية»، صحيفة «الخليج» الإماراتية في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007) - ألا يبعد كثيرا في سياق تحليله عمّا سبق التطرق إليه. فكانت خلاصته بشأن الأحزاب المغربية التي مفادها: «إن عجزها عن طرح مشروعها السياسي والديمقراطي قد فاقم من ظواهرها السلبية وأدى بها إلى استهلاك جزء غير يسير من رصيدها الجماهيري بسبب تخلخل صدقيتها من التحالفات والمراهنات التي أبدتها تجاه علاقتها مع المشروع الأميركي في المنطقة العربية بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط وتفكك المنظومة الاشتراكية»، مضيفا أنها «تعاني من قصور ونقص في فاعليتها الحزبية السياسية، بسبب الفراغ الذي سيأخذ الوطن إلى حتفه، حيث تنعدم فيها الحياة الديمقراطية الحزبية الحقيقية بسبب تسلط (الأوليغارشية البيروقراطية): (حكم الأقلية في أوساطها في اتخاذ القرار)، ما يمنع من استيلاد الأفكار الجديدة والتكيف مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما تعكسه على مستوى الفكر، فهي تعاني من هشاشة في تماسكها أو تمالك نفسها من الإغراءات التي تبسطها السلطة من أمامها إلى حد ركوب سياسات تجبّ تاريخها النضالي كما حدث في موقفها تجاه احتلال العراق وأفغانستان وما يحدث في فلسطين ولبنان، وبسط المسوغات والمبررات لهذه الهشاشة»؛ مما دعاه - أي بلقزيز - إلى الاستنتاج بسيادة العدمية في صفوفها التي أنتجت وعيا سطحيا وسلبيا تجاه الكثير من المواقف التي تضرب بجذورها في العمق الجماهيري ووسعت الفجوة بينها وبين الجماهير.

إلى هنا يمكن الاستنتاج أن بعض قوى اليسار تعاني ما تعاني من تضخيم للذات وتعالٍ وبيروقراطية حزبية. والأخيرة - بحسب الاجتماعي روبرت ميشلز («علم الاجتماع السياسي» ص 116 و189) - تحوّل أي تنظيم حزبي في يد القادة السياسيين إلى وسيلة لتنمية سلطتهم والتخلص من الرقابة والاقتصار على أخذ مواقفهم.

إذا، كل العوامل السابقة مضاف إليها البيروقراطية قد أدت إلى العجز عن استيلاد مشروع عربي يقي مجتمعاتنا السقوط في براثن خيار المراهنة على المشروع الأميركي - الإسرائيلي «الشرق الأوسط الجديد» الذي صاحب فكرة نشر الديمقراطية والإصلاح، كما أدى بها إلى إسقاط فكرة القومية والهوية العربية، ومنه لربما القبول بإعادة صوغ المنطقة بحسب التقسيمات الجغرافية التي تدمج الكيان الصهيوني في الإطار العربي الإقليمي الذي تتربع على عرشه دولة «إسرائيل»، وتصبح مجتمعاتنا ودولنا العربية مجرد توابع للمركز. لماذا احتمال حدوث ذلك؟

خطأ الرهانات... والأولويات

ببساطة شديدة؛ لأن رهانات بعض قوى اليسار العربي على المشروع الأميركي للمنطقة لم تكن البتة في محلها، وخصوصا في ضوء تجربة ما حدث في العراق وأفغانستان، وهذا حتما يستوجب من بعض قوى الإسلام السياسي - التي يرصد الساسة والمحللون تحركاتها ومفاعيلها ويتفحصون توجهاتها الآخذة دربها في مسار عقد تحالفات مع الأميركان - يستوجب عليها فرملة هذه التوجهات والإفادة من الرهانات السابقة وأخذ العبرة والدرس منها، إذ لا يوجد في القاموس السياسي للامبراطورية الأميركية المتوحشة التي تجتاح العالم غير تقديم التنازلات تلو التنازلات، التي في جوهرها تصيب عمق الجماهير ومصالحها وهويتها العربية، وهذا ما يدعو لإعادة النظر والتفكر في بلورة وإيجاد فرص لمخارج رؤية يسارية عربية جديدة عقلانية تأخذ على عاتقها إعادة تقويم الذات البنّاء، ووضع أولوية الشعوب العربية ومصالحها في فوهة التوجهات التي تحارب بها الاستعمار الجديد وتؤسس لنهضة ديمقراطية متحررة من نير الاستعباد والمذلة.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 2028 - الثلثاء 25 مارس 2008م الموافق 17 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً