لا نظن أن هذا الصيف اللاهب سينقضي دون حدوث توترات دراماتيكية، ليس فقط في سياسات الدول، بل في أسس وجود الدول ذاتها، وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط المعبأة بكل عوامل الصراع وبؤر التوتر، من الصراعات السياسية والعسكرية، إلى التوترات الدينية والصدامات الطائفية.

أمامنا لوحة متسعة من هذه الصراعات المتشابكة، إن كانت تشكل حاضر دول المنطقة وأممها، فهي تشكل بالضرورة مستقبلها وترسم خطواته وتحدد معالمه، ونعتقد بأنها معالم لمستقبل مختلف، لن يكون أبدا كالماضي ولا الحاضر!

ولن نبالغ إن قلنا إننا دخلنا فعلا عصرا جديدا من الصراعات والحروب والصدامات، المبنية على أسس طائفية وخلافات دينية وتفاوتات اجتماعية، بعد أن عجزت الحروب والحملات العسكرية والغزوات الاستعمارية عن تحقيق أهدافها، في ظهور المنطقة العربية حتى النهاية وإخضاعها للغرب بشكل مطلق.

صحيح أن الصدام الديني وخصوصا بين الإسلام والمسيحية الغربية، قائم منذ قرون، وبلغ شدته خلال الحروب الصليبية، ولكن الصحيح أيضا أن موجات جديدة من هذا الصدام هبت على فترات وانتعشت خلال عهود الامبراطوريات الأوروبية الاستعمارية، وها هي تعود اليوم ربما بضراوة ملحوظة في ظل روح التعصب المتبادل، بين بعض المسلمين وبعض المسيحيين في الشرق كما في الغرب.

ومنذ أن جاء الرئيس الأميركي الغارب جورج بوش إلى البيت الأبيض قبل ثماني سنوات إلا بضعة أشهر وهو يصبغ السياسة الأميركية، وخصوصا الخارجية بمسحة دينية تبشيرية، إن كانت تدافع بالضرورة عن القيم المسيحية، فهي بالضرورة أيضا تشير علانية إلى نقائض غيرها، وخصوصا القيم الإسلامية، ولم يكن بوش وحده، ولكنه جاء في مناخ عربي عام وصفه المفكرون المستنيرون بأنه ارتداد عن العلمانية الغربية إلى التدين التقليدي، كما أنه جاء محاطا بكتائب المحافظين الجدد اليمينيين والمتدينيين القادمين في معظمهم من حزام الانجيل في الولايات الجنوبية لأميركا.

على الناحية الأخرى، كانت الأفكار الجهادية والتنظيمات الإسلامية المتشددة، تتسع بدعواتها وتحركاتها، بحجة الدفاع عن الإسلام في مواجهة الغزو الصليبي القادم من الغرب، وهي أفكار انعكست سلبا على مجمل الأوضاع، وصولا للخروج عن أصول الإسلام، وانتهاء باعتناق العنف والإرهاب في كثير من الأحيان، ما ساعد على تأجيج فكرة صدام الأديان وصراع الحضارات والثقافات النابعة من الفكر الغربي.

فوق هذه الموجات المتصادمة، مارس بوش وعصابة المحافظين الجدد، المسنودين بقواعد متعصبة ممن يسمون بـ «المسيحيين الصهيونيين» شديدي الانحياز لـ «إسرائيل» شديدي العداء للعرب والمسلمين، غزواته العسكرية لبناء مجد «امبراطورية القرن الأميركي»، مستغلا هجمات سبتمر/ أيلول 2001 الدموية ضد نيويورك وواشنطن، ليغزو أفغانستان في العام 2001 ثم يغزو ويحتل العراق العام 2003 حتى الآن، ومازلنا نتذكر كل الشعارات التي كان يغلف بها سياساته وقراراته، وهي شعارات دينية، من نوع حرب الخير والشر، الحرب المقدسة النظيفة، الحرب الصليبية الجديدة، حرب الخلاص... إلخ.

على أن أخطر ما أفرزته كل هذه السياسات والشعارات، هو اختراع واشنطن نظرية «الفوضى الخلاقة». القائمة على نشر الفوضى في الدول العربية والإسلامية، لتدمير كياناتها القائمة والمتهمة بالاستبداد والفساد وتفريخ التعصب والإرهاب، ثم بناء دول أخرى جديدة، تقوم على القيم الأميركية تحديدا.

مارست أميركا الفوضى الخلاقة، وهي المدمرة حقا، في العراق حتى مزقته، ليس سياسيا وعسكريا فقط، بل مزقته على أسس عرقية أولا بين العرب والأكراد، ثم على أسس طائفية بين السنة والشيعة، ثم بين السنة والسنة، والشيعة والشيعة... وحال العراق اليوم ينطق بهذه المأساة الطائفية القتالية، على رغم ادعاءات بوش بأنه جلب الديمقراطية والأمن للعراقيين!

عدوى الصدامات الدينية والفتنة الطائفية الساخنة تنتقل سريعا عبر دول المنطقة، ليس فقط بتحريض أميركي غربي، ولكنها تسبح فوق تراكمات قديمة ومظالم لم تجد عدلا، وتنظيمات متطرفة تضخ أفكارا متعصبة ضد الآخرين من هذا الدين أو ذاك. واقرأ بعض الكتب والصحف على الأرصفة، وتابع السموم التي تبنتها بعض الفضائيات الإسلامية والمسيحية، واسمع بعض ما يقال في عدد من المساجد والكنائس، بل واقرأ مناهجنا التعليمية، لتدرك روح التعصب تعصف بنا جميعا عائمة فوق أسباب داخلية، مدفوعة بأسباب خارجية تمدها بالفكر والمال والتشجيع الذي صار علنيا!

ربما يرى البعض أن لبنان بلد الطوائف المتوازنة «18 طائفة» هو الأكثر عرضة لانفجار الصدام الديني والعنف الطائفي. وهذا صحيح، لكنني اعتقد بأن مصر تحديدا هي الآن الأكثر عرضة لهذا الهجوم الشرس، بل الأكثر استهدافا فتمزيقها على أسس دينية إسلامية مسيحية، تغذيها، كما نكرر، عوامل نابعة من داخلنا، وتشجعنا وتلهبها حملات من الخارج، معروفة الهدف والوسائل والمصادر.

لا يجب الاستمرار في حالة التجاهل والتغابي والإنكار، بأن مصر لا تعاني من فتنة طائفية، أو من احتقان بين بعض المسلمين وبعض المسيحيين، ولا يجب الاستسلام للتفسيرات الأمنية وإجراءاتها وحدها في معالجة مظاهر هذا الصدام، لأن الأمر لو اقتصر على اعتداء على كنسية أو دير لمرة أو مرتين لهان العلاج والمواجهة، ولكن حين تقع الصدامات متكررة، وتتبادل الأطراف الاتهامات والاعتداءات والمظاهرات الغاضبة، وصولا للاحتجاجات التي تطالب بتدخل بوش وأميركا لحماية المسيحيين المصريين، فإن الأمر يصبح خطيرا ويعكس مناخا معبأ بالفرقة والتطرف المتبادل والاستقواء بالنفس أو الأجنبي.

للأسف الشديد، بدأ سوس الفتنة الطائفية ينمو ويشتد في مصر منذ بدايات السبعينيات، حين وقعت حوادث «الخانكة» العام 1927، ثم امتدت طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات، حتى وصل الإرهاب ذروته في التسعينيات، سابحا فوق أفكار شديدة التطرف وتنظيمات إسلامية شديدة التعصب، ليس ضد المسيحيين فقط بل ضد معظم المسلمين.

ولو كانت الدولة والمجتمع قد عالجا الفتنة الطائفية هذه في بدايتها بالعلاجات السليمة، وليس بالمسكنات الوهمية، لما توسعت وصولا إلى ما نحن فيه اليوم من صدامات متكررة، ولو كانت الدولة طبقت توصيات لجنة تقصي الحقائق التي شكلها البرلمان العام 1972 برئاسة جمال العطيفي، لتمكنت من وأد الفتنة وحل الاشتباكات ورفع المظالم وكسر شوكة التطرف، الذي افرز تطرفا مضادا.

مصر اليوم كما قلنا الأكثر عرضة للتمزيق الطائفي والصراع الديني، بعد أن قويت أسلحة المشددين والمتطرفين على الجانبين، وهي الأكثر استهدافا لمشروعات قديمة تتجدد، لتقسيمها في اطار نظرية «الفوضى الخلاقة» أي المدمرة، بين دولة إسلامية وأخرى مسيحية، ودولة نوبية في الجنوب وأخرى في سيناء تكون منطقة عازلة بينها وبين «إسرائيل» المحمية الأميركية، والنموذج الأوضح للدولة الدينية في عصور الدول الحديثة... والديمقراطية!

المصريون جميعا مطالبون اليوم بإعادة الحساب وتصحيح الاتجاه الخاطئ الذي يسيرون فيه، لكي ينقذوا وطنهم الذي عاش موحدا آلاف السنين، من فتنة الصراع الديني والعنف الطائفي... بل لينقدوه من فتنة التمزيق والتقسيم، وهي فتنة تصر أن تلفحنا بلهيبها في الصيف الساخن، وإلا أين ذهبت قيم التسامح والتعايش، والمواطنة والمساواة، ودولة القانون وحقوق الإنسان والوحدة الوطنية والدولة المدنية الحديثة!

خير الكلام:

قال تعالى: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» (العنكبوت: 46).