بهدوء تام ووقار المناضلين الأحرار حمل الرجل الدمث الأخلاق، الحيوي، البسيط، المبدئي، العميق، واسع البصيرة، حمل الألم والمرض ولملم جراحه، وجراحنا وجراح شعبه الذي عشق، ورحل.

عرفته أوّل ما عرفته كإنسان عن بُعد، إذ كانت تصلني أخبارُ نشاطه الدؤوب أوّلا بأوّل. بعدها تعرفت عليه صفحة مقروءة من تاريخ النضال السياسي الوطني الملتزم في جميع المنعطفات التاريخية التي عاش معاناتها وتشظياتها، إنسانا بسيطا غير مزايد في ترديد الشعارات أو الأفكار أو المبادئ على الرغم من بعد نظره وبصماته الواضحة كمعارض سياسي حقيقي.

النضال بالنسبة إليه موقف يُسجّل ويتخذ وسلوك سياسي وحزبي يُمارس، وحضور مشع في أتون العمل السياسي، والنقابي، والتطوعي لا غياب عنه أو تعالي.

هكذا كان قياديا بامتياز وسط الرفاق والأصدقاء يفرض احترامه حتى وإنْ تباينت وجهات النظر هنا وهناك. يصل بيسر إلى عامّة الناس، ويدرك طبيعة مجتمعاتنا المعقدة في حراك قواها الاجتماعية والسياسية وعلاقاتها وتفاعلها بعدا وقربا بالرغم مما تظهره من بساطة وطيبة.

هذا الإنسان الذي عصرني قلبي حين بلغني خبر رحيله، شعرتُ بغصة، وبعظم خسارة الوطن.

كان دائما وأبدا حاضرا في الذهن والضمير حين تستعصي على أيّ منّا حبكة المواقف في هذا الوطن وعقدها، كانت خياراته وصلابتها تضيء لنا طرقا وتنير بصيرتنا؛ فنعدل على ضوئها المسارات حتى وإنْ حادت أو أخطأت اتجاهاتها، تماما كما عبرت عنها شهادات رفاقه وأصدقائه الذين عاصروه وخاضوا معه تجارب العمل الوطني النضالي وغيرهم كثيرون من أبناء هذا الشعب ممن تألموا حزنا لرحيله وفقدانه.

الوطن خياره الأوّل ومنتهاه، وإنْ كان لنا من خيار وفرص في إعادة قراءة وتقييم تجاربنا النضالية والوطنية، فثمة الكثير مما يمكن استلهامه من سيرة «هشام الشهابي» وصلابته والتزامه ومبادئه، أنْ نستحضر خياراته التي تبلورت في رفض الخنوع والذل وممارسة فنون المسايرة والالتواءات، أنْ نعيد قراءة مفهوم الحق والحرية عبر مواقفه الحرة تجاه تزييف الإرادة الشعبية وفرض دستور غير عقدي.

نعم الحزن يعتصرنا ويُؤلمنا كلّ يوم يرحل عنّا مناضل أو قائد لطالما كان نموذجا في شرف المواقف والعطاء.

رحم الله رفيقنا في هم الوطن والتفاؤل «أبو عُمر، هشام الشهابي». ولتكن ذكراه النقية الثرية صورة حيّة نعيد استحضارها دائما لرص صفوفنا وتوحيد مواقفنا المعارضة، وتعزيز التربية الوطنية الحقيقية الملتزمة بمبادئ الحق والعدالة التي يتصدرها الإيمان بوطن يسع لعامّة الناس وتعددها وتنوعها ويحترم فيه الإنسان، كما يحترم فيه المدافعين عن المبادئ الذين لا يبيعون الوطن ولا النفس من أجل حفنة دنانير باهتة. حتما ستتذكر الأجيال في ذاكرتها الجمعية «هشام الشهابي»، وتتعرف عليه في كتب التاريخ الوطني كمناضل سياسي ونقابي محترف، كما تقرأ عن الشهداء الأحرار الذين احتفظوا بضمائرهم حتى آخر رمق لهم في الحياة من دون أن يهتز لهم طرف من رنين ذهب السلاطين.