العدد 2323 - الأربعاء 14 يناير 2009م الموافق 17 محرم 1430هـ

خيرية بوبطان: أهازيج تونسية تتصل بعاشوراء والفاطميين

أنثروبولوجيا أهازيج البراش بالملتقى الثقافي

أشارت الباحثة في التراث خيرية بوبطان إلى أن الحفاظ على التراث مهمة حضارية وينبغي التفاعل مع هذا المخزون الثقافي لا باعتباره مومياء مثيرة للدهشة أو مجرد روائح عبقة مثيرة للحنين أو مشاعر للرغبة في الانتماء إلى عالم الفنتازيا المنقرضة بل ينبغي أن نتعامل معه باعتباره جسدا حيا نابضا قادرا على التجدد والتفاعل فهذا التراث الذي لا يزال ساريا على الألسنة نافذا في العقول قبل القلوب سحره فاكّا طلاسم ما يستعصي على الوسائل الحديثة، معبرا عن انتمائنا إليه و انشدادنا الوثيق لقوانينه، رغم ادعائنا أننا أكثر تطورا وانفتاحا، وأنه تخلف موحل لا ينبغي مطلقا اعتباره مصدرا للمعرفة فهو ولا شك مكون من ذاكرتنا حاضر بالقوة في سلوكاتنا وانفعالاتنا محدد قوي لرؤيتنا للكون ومساعد على فهم العمق الإنساني على اختلاف أجناسه وانتماءاته»

هذا ما خلصت إليه الباحثة التونسية في التراث الشعبي «خيرية بوبطان» في محاضرتها بالملتقى الأهلي الثقافي عن دراستها الأنثروبولوجية للبراش وهي نوع من أهازيج البدو في تونس.

وأضافت أن البراش من الفنون المرافقة للبدوي في حياته اليومية كنوع من التحفيز النفسي الذي يساعده على أداء أعماله وعرضت لمقاطع من أهازيج تصدح بها أصوات النساء حين يشرعن بتليين الصوف وغزله في مجتمع نسوي يعرف بالرغيطة وهي اجتماع النسوة في بيت واحدة منهن لمساعدتها على القيام بأعمال الصوف المختلفة بدءا من تليين الصوف إلى غزله إلى صبغه إلى آخره.

دلالات أنثروبولوجية

وعرضت لمقطع آخر تقول فيه البدوية «الكرداش يرغي لسمي وانجومة.... « والكرداش هي آلة خشبية لتليين الصوف وهذه الكلمات هي قاموس البدوي فيرغي هي كناية عن الجمل راحلته ورفيقه في الطريق، وكلاهما يعلم صاحبه الجلد والتفاني في إخفاء الألم والسماء والنجوم هي مفتاح الطريق وسبيل الهداية في الصحراء ولكل هذا دلالات أنثروبولوجية عميقة جدا في علاقة البدوي بالصحراء والنجم والقمر. أما الكرداش فهو الآلة الحيوية لتحويل الصوف الخام إلى لباس أو غطاء أو سكن والأهزوجة شحنة حماسية من خلال الأفعال «يرغي، يعيط، يحير» في حركة تهيّج الرغبة وتحيي في النفس أمل الكمال إذ ترى المرأة كل ما حولها من إبداع يدها وقد اكتمل، فالبيت هي التي صنعته، واللباس هي التي خاطته، فهي تمني نفسها وهي تقوم بأول مراحل العمل، أن ما تقوم به الآن سيكتمل قريبا ويصبح على النحو الذي يحيط بها في عالمها.

وبهذا يمكن أن نقول البراش فن من الفنون ولغة تواصل مثقلة بالتعبير الرمزي، وقد استطاع البدوي أن يفصح بالمسكوت عنه والذي أثقل عواطفه في كل ما يشغل هذا البدوي ليكون «البراش» تعبيرا بليغا لا عن البدوي فحسب وإنما عن قضايا الإنسان الحيوية من ولادة وموت وحب.

«سيدك احناش الليل»

وأضافت عندما كنت صغيرة، كنت أستغرب لماذا يصفقون كل هذا التصفيق ويتحمسون كل هذا الحماس، ويرقصون كل هذا الرقص، وما هذه الكلمات التي ترقصهم «سيدك احناش الليل وأمك عقرب» ولا تتصوروا كم حماسة النساء وهن يرددن الأهزوجة لأن مجتمع القرية كان مجتمعا نسويا ولا مجال لدخول الرجال إلى احتفال النسوة فعندما كن يرددن هذه الأغنية كان هناك حماس رهيب جدا أثناء أدائها، والآن فقط فهمت لماذا كل هذا الحماس عند أداء هذه الأغنية فهذه (البراشة) تصور البدوية في أهزوجتها ذلك الصراع بينها وبين أهل الزوج فتحولهم إلى أكثر ما يخيف البدوي من الزواحف «حنش عقرب» وهي مكونات الإخافة بإضافة الليل كخلفية ونحن نقول «حنش بو ليلة» أي الثعبان ذو السم النافذ القاتل المعروف بالحنش أو أشد الثعابين فتكا في المخيلة الجمعية.

هواجس بدوية

وأضافت تبيّن من ذلك مساحة علم البدوي وهواجسه في علاقته بالمكان وما يسكنها من زواحف وما يهدد وجوده باستمرار، تلك هي الهواجس التي تقض مضجعه، وهي في الواقع هواجس ذات بعد إنساني غارق في القدم تعود بنا إلى عالم الأساطير حيث كان الإنسان يعتقد أن الأشباح تسكن الحيوان، أو هي أرواح حيوانات مفصولة عن أجسادها، تهيم على وجهها، لتخيف الناس، وخاصة تلك التي يخافها بشدة، وذلك حين كان يعتبر الأنثى أصل الشر كما في الأساطير الإغريقية القديمة التي تصور أن أول البدء أنثى أو الأنثى السيئة الشريرة حيث كانت حواء منبع لكل شر أو هي المضغة السيئة من آدم والتي خلقت من ضلع أعوج.

«أهازيج عاشوراء»

وأضافت الراحثة ومن «البراش» أيضا تلك الأهازيج التي تلقى في المحفل وهي يرافق أغاني الاحتفالات الخاصة مثل عاشوراء، فقبائل بني هلال والدولة الفاطمية عندما استقرت في تونس تركت هذا الإرث الثقافي أو ثقافة التشيع، وقد ظلت ثقافة التشيع في الضمير الشعبي والمتخيل الجمعي في الجنوب سواء كان ذلك سلوكا مدركا واعيا أو في سلوك غير واع وقد كان الجنوب الشرقي يحتفل بعاشوراء إلى فترة قريبة جدا، ولم أعد أرى ظواهر الاحتفال منذ سنتين أو ثلاثة تقريبا، وبطبيعة الحال ليس الاحتفال كما هو في العراق أو هنا في البحرين ولكن على الأقل فيه بعض الانتماء إلى هذه الثقافة ولكن في الجنوب الشرقي قديما وإلى حدود العشرينيات والثلاثينيات كان الاحتفال بعاشوراء شبيه جدا بالاحتفال بعاشوراء في النجف بالعراق كما يقوم به العراقيون الآن

وهذه الأهزوجة تشير إلى هذا الاحتفال بعاشوراء

« اندبن يانادبات

وِلْد نْبينا قالوا مات

اندبن يا شيب الشيب

وِلْد نْبينا ما هو عيب

اندبن يا شيب الجنة

على وِلْد نْبينا راحو منا

واللي ما تخرج تندب

يعطيها ربي شوكة أو عقرب»

هكذا هو البدوي في عالمه في صحرائه يذكر الشرور وينشغل بما يخيفه دائما ولعل هذه الأهزوجة تؤكد كذلك هذا الانتماء وهذا التفاعل الحضاري في فترة تاريخية معينة مع الثقافة الشيعية.

البراش منتوج شفوي

وأشارت إلى أن «البراش» لا يختلف في وظائفه عن المنتوجات الشفوية في تعبيره عن انشغال مبدعيه بالحفاظ على صحتهم وتجنب المخاطر المهددة لحياتهم وأملهم في الحصول على رغد العيش كهذه الأهزوجة التي تكشف فيه هذه المرأة عن صورة فارسها فهو ليس كما وصفه عنتر بن شداد يغشى الوغى ويعف عند المغنم هذا ليس مطلوبا عند البدوية بل هو الرجل المقتدر والذي يحميها من العوز والحاجة تقول:

حابية ياحابية

الفقري مانبغيه

نبغي مول البل

والخرص مكلل

أعمى فوق اجل

ابسيدي انكود بيه

نبغي مول الناقة

والخرس والعلاقة.

حتى فيه اشكاكه

انحوم وانداويه

نبغي مول البيت

والعسل والزيت

حتى لوكان ابكيت ايسكتوني بيه

نبغي موللزيرة والكنته والدرديرة

ادهانه مالديرة

هاكه سعدي بيه

لأن ثروة البدوية إبل وغنم وعسل وزيت وبستان نخل وحلي ومن يملك هذا هو الخير حتى ولو كان أعمى أو مشقق القدمين، فالمال كفيل بدرء العيوب، وإن كانت تبكي أو حزينة فالمال كفيل بدرء آلامها وتخفيف جراحها.

«مدينة جرجيس»

وأضافت أن البراش في أهازيجه إذن ليس تعبيرا فرديا وإنما هو صوت الضمير الجمعي للمجتمع البدوي وما يعتمل فيه، وما طرأ عليه من تغيير في وسائل العيش، ونمط الحياة بالميل إلى الاستقرار وترك الرحلة وما نجم عن ذلك من ركون إلى الكسل وترك للرعي أو العمل الفلاحي والانغماس في حياة استهلاكية سهلة، وفرّتها له طفرة التطور في العصر الحديث وقد تفاعل أهل البادية التونسية مع صخبها وهكذا كانت مدينة جرجيس فنحن حين نتجول في أرجائها نرى كل ذلك العمق إلى زمن قريب جدا فهي كانت تنتقل في كل الفصول ولا تستقر إلا في فص الصيف، والآن فقط تغيرت

العدد 2323 - الأربعاء 14 يناير 2009م الموافق 17 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:59 ص

      بنت الجنوب تحيي تراث الجنوب

      نافذة واعدة تفتحها الباحثة التونسية خيرية لتسليط مزيدا من الاضواء على مساحة واسعة من فضاءات الثقافة ... نتمنى لها التوفيق

اقرأ ايضاً