العدد 2357 - الثلثاء 17 فبراير 2009م الموافق 21 صفر 1430هـ

جولة مبارك الخارجية وحقيقة الدور المصري

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

إن الجولة الخارجية للرئيس حسني مبارك وتحركات الدبلوماسية المصرية والدبلوماسية الاستخباراتية المصرية ممثلة في الوزيرين أحمد أبوالغيط وعمر سليمان والتي امتدت من إيطاليا وفرنسا وتركيا والبحرين وكذلك السودان والسعودية وقبل ذلك الإمارات العربية المتحدة، تعكس موقفا دبلوماسيا وسياسيا نشطا يؤكد على عدة حقائق:

الأولى: إن مصر تتحرك بمقومات القوة الناعمة لديها وفي مقدمتها العمل السياسي والعمل الدبلوماسي. وتنفق من خلال هذه القوة الناعمة رصيدا هائلا، إذ إن مباحثات «حماس» و»إسرائيل» غير المباشرة عبر البوابة المصرية، كذلك مباحثات «حماس» و»فتح» تستهدف عمليا المساعدة للشعب الفلسطيني من ناحية حياته المعيشية وأمنه، وكذلك رأب الصدع بين صفوفه لكي يستطيع أن يتفاوض من موقف واضح وجبهة داخلية متماسكة. وهذا بالطبع خلاف أدوار دول أخرى جل همها التحريض أو طرح شعارات الإثارة أو دفع أموال لشراء أنصار وأتباع. وهو منهج لا تعمل مصر من خلاله لالتزامها بمبادئ الأمن العربي والمسئولية القومية العربية تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الأشقاء العرب في السودان أو العراق أو غيرهما كلما واجهتهم مشكلة أو تعرضوا لمأزق. ولعل دبلوماسية مبارك للتقريب بين تركيا وسورية عندما توترت العلاقات بينهما العام 1998 خير شاهد على ذلك العمل الدائب المتواصل البعيد عن المصالح الذاتية أو عن تأليب دول أو جماعات أو طوائف ضد بعضها بعضا.

الثانية: إن أدوار الدول لا تقاس إلا بمؤشرات القوة الحقيقية للدول وفي مقدمة تلك المؤشرات: العقول المفكرة والمبدعة، ومن ذلك وجود رؤية استراتيجية واقعية غير حالمة تدرك المتغيرات الدولية في جوهرها وفي اتجاهاتها وفي تطوراتها، ومنها القوة العسكرية الفاعلة والواعية والقادرة على العمل من خلال التخطيط الذي لا يؤدي إلى تدميرها أو تدمير بلادها. فالعمل العسكري سواء تقليدي أو تحريري لا يمكن أن يكون سليما ما لم يحقق هدفه في الحفاظ على تبيان الدولة ومؤسساتها وعلى بنيتها الأساسية وإلا فإنه سيكون عملا عبثيا. ومن مؤشرات القوة الاقتصادية القائمة على الصناعة والزراعة والخدمات، وليست القوة المالية التي هي نتاج موارد ريعية ترتفع فجأة بلا منطق ثم تهبط بلا مبرر ثم تتذبذب بلا عقلانية. المورد المالي هو مورد هشّ بخلاف المصادر الاقتصادية الحقيقية. ومن مؤشرات الموارد البشرية التي تستطيع أن تنتج، وتستطيع أن تدافع عن بلادها، وتستطيع أن تبتكر وأن تدير شئونها، أما الاعتماد على موارد بشرية مستوردة فعلى رغم أهميتها وضرورتها إلا أنها بمثابة قنبلة موقوتة لمخاطرها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

الثالثة: إن أقدار الدول وأوزانها وفقا للمعايير الدولية المتعارف عليها هي المدخل الحقيقي لكيفية التعامل معها، وحقا فإن القاعدة الرئيسية في القانون الدولي هي مبدأ المساواة في السيادة، ولكن القاعدة الرئيسية في السياسة الدولية هي ميزان القوى الحقيقي، فصوت دولة كبرى في الأمم المتحدة يتساوى شكليا وقانونيا مع صوت دولة صغرى، ولكن أعمال حفظ الأمن والسلام العالمي، واتخاذ القرارات الرئيسية في المنظمة الدولية تقوم به الدول القادرة الفاعلة التي لديها ركائز القوة الحقيقية، وليست القوة الهشة أو القوة الطارئة. كذلك الأمر في الاتحاد الأوروبي وغيره من المنظمات والاتحادات الدولية ذات المصداقية. أما مؤسسات أخرى إقليمية أو دون الإقليمية فإن من أسباب ضعفها وعجزها الذي يتساءل عنه كثير من الشعوب أو الأفراد، مرجعه عدم إعطاء الدول أوزانها والتعامل فيما بينها على هذا الأساس.

وهنا نجد بعض الدلائل التي تشير إلى وزن دولة مثل مصر فعند تصفح مجلة ذات مصداقية مثل «الإيكونومست» على سبيل المثال في مؤشرات الناتج الوطني أو الصادرات والواردات أو معدل نمو الدخل الوطني أو نحو ذلك نجد مصر من بين تلك الدول في حين أن دولا أخرى من أصحاب الضجيج لا وجود لها، ليس فقط لهامشية القوة الحقيقية لديها، بل لأن أبواق دعايتها الغوغائية، لا تصل سوى للدهاء من الناس، وهي تصيح كصياح الديكة بلا مصداقية، حتى وإن صفقت لها بعض الشعوب من قبيل الفكاهة كمن يراقب لعبة صراع الثيران أو نحو ذلك. ويتصور الثور الهائج أحيانا أنه صاحب قرار أو رأي فيما حوله في حين أن قطعة من القماش الأحمر هي التي تثيره حتى يطعن منافسه الثور الآخر، ويبتهج المتفرجون على اللعبة التي تؤدي إلى قتل أو طعن أو جرح اللاعبين. وكم من اللعب في الساحة السياسية الدولية يتفرج عليها من يديرونها من وراء ستار مثل لعبة الأرجواز أو الدمى السياسية المتحركة على أرض الشرق الأوسط.

من هنا نقول إن وزن مصر على رغم كثرة مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية نابع من ركائز حقيقية ثابتة ربما طرأ عليها بعض التغير ولكنها قائمة، بخلاف أوزان وأهمية دول أخرى ملأت الساحة ضجيجا وتصورت أنها أصبحت قوة، ولكن سرعان ما زالت قوتها، أو وضع دول أخرى لاتزال تصيح هنا وهناك، أو وضع دولة ثالثة تستخدم مواردها وقوتها في أعمال التخريب وبث الفتنة والفرقة بين الشعوب وداخل كل شعب بأسماء وعقائد ومذاهب متنوعة.

ولهذا نقول إن قوة مصر ودورها الحقيقي ينبع من هذه القوة التي مازالت، والأهم في عناصر قوة مصر هو قوتها الناعمة التي لا يشعر بها أحد ولكنها مثل الماء يمكن أن يفتت الصخر بهدوء، ويبني الجداول والقنوات ويقيم الجسور، أما قوتها العسكرية فهي كامنة عندما يسود السلام، هادرة عندما يحين وقت الدفاع عن الوطن ولعل تجربة حرب 1973 خير شاهد على ذلك، أن قوة مصر العسكرية تعمل بإرادة وقرار وطني وليس بقرار عشوائي.

كثير من المثقفين من أصحاب البصيرة يدركون هذه القوة المصرية في مضمونها الحقيقي وفي فاعليتها ويتصرفون وفقا لذلك، وقلة ينخدعون بظواهر الأمور وينفعلون ولهم العذر أحيانا، وقلة قليلة لا جدوى في إقناعهم لأنهم مثل الدمى يحركهم آخرون من وراء ستار.

دور مصر نابع من قوتها العاقلة ومن مواردها الكامنة ومن طاقتها المبدعة، يكفي إلقاء نظرة على الساحة العربية أو حتى الساحة الدولية لنجد لمصر حضورا ووجودا ليس بالأموال وإنما بالعقول، ليس بالسلاح ولكن بالفكر والدبلوماسية. هذا لا يعني أن مصر بلغت الأماني في تحقيق أهدافها بل أمامها المزيد والمزيد من مواردها وطاقاتها غير المستغلة الاستغلال الأمثل، وهذا يجعل أمام قيادتها تحديا كبيرا لتفعيل هذه الطاقات وتنشيطها وتوجيهها الوجهة السليمة.

لعل ذلك كله أحد الأهداف للحركة الدبلوماسية المصرية التي تدرك طبيعة المتغيرات ونقاط القوة ونقاط الضعف وتتحرك في إطار من الفرص المتاحة لمواجهة التحديات التي تفرض نفسها في اللحظة المناسبة

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2357 - الثلثاء 17 فبراير 2009م الموافق 21 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:17 م

      لا فض فوك

      لا فض فوك استاذنا الكاتب فق وضعت تصور عقلانى لما يحب ان يدركة المواطن العربى الذى أصبح شريدا و معقدا وسط توجهات مختلفة يغلب عليها الصياح الواهى.

اقرأ ايضاً