العدد 270 - الإثنين 02 يونيو 2003م الموافق 01 ربيع الثاني 1424هـ

تركيز الخطأ أو الصواب عبر الإيحاء للنفس وللآخرين

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

سأل أحد خبراء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي عن طريقة التدريب التي يتعرف بها على أوراق النقود المزورة. فأجاب بانهم يدرّبون للتعرف على الاوراق الصحيحة غير المزورة فقط. والاجابة هذه توجد خلفها فلسفة مهمة، وهي تركيز الجهود على معرفة الامور الصحيحة، وبالتالي فان الامور غير الصحيحة تبرز للسطح امام اولئك الذين يعملون في الجانب الصحيح.

ينطبق هذا الحديث على امثلة اخرى من حياتنا، فالاشخاص الذين يركزون فقط على امراضهم وأوجاعهم واخطائهم فإنهم دائما مصابون بتلك الامراض والاخطاء. المرء الذي يقضي وقته في التفكير في المصائب، في كيف انقطعت رجل احدهم بعد ان صدمته شاحنة، وكيف زهقت روح احدهم عندما سمع صوت زاهق، وكيف وكيف... فانه يقضي حياته يبحث عن الحزن حتى يحصل عليه بنفسه لكي يرتاح بعد ذلك ويموت في مقابل ذلك. ان الاشخاص الناجحين عادة ينظرون الى اخطائهم وأخطاء غيرهم كدروس وخبرة من خلال مقارنتها بالقدرة على النجاح لتعزيز الثقة بالنفس. والثقة بالنفس تنبع من اعتقاد الشخص بان النجاح سيكون حقيقة في مستقبله، من خلال تركيزه المستمر على الامور الصحيحة في حياته. وهذا هو السبب في تأكيد المسئولين عن التوجيه في المجتمعات المختلفة على تركيز الناس بماضيهم الجيد وقدراتهم الحسنة التي اثبتوها واثبتها اجدادهم في الماضي. هناك انواع من الحكومات والحركات - افرادا وجماعات - تتبنى الاسلوب المعاكس لما ذكر اعلاه. ففي حديث مع احد المسئولين في احدى الدول العربية رد معلقا على احد القضايا بان هذا الشعب (ويقصد شعبه) ليس فيه فائدة ولا ينفع معه شيء. هذه النظرة موجودة ايضا لدى حركات تقول انها تعمل على تطوير امر تحرير الحالة السياسية في بلدانها.

الحقيقة إن كل شعب وكل أمة وكل مجتمع لديه عيوب «وعورات» كما ان لديه امجادا وخصالا عالية. والتركيز على الخصال العالية لا يعني نكران وجود خصال غير حسنة، وانما يعني ان المرء يركز جهوده على الجوانب التي تدفع المسيرة الى الامام بالاتجاه الصحيح. التركيز على الامر الخطأ يدفع الانسان نفسه الى ارتكاب الامر الخاطئ. فذلك الشخص وتلك المجموعة التي لم تتوقف عن ذكر اخطاء الآخرين والتركيز عليها سرعان ما ترى نفسها ترتكب الاخطاء ذاتها. فهناك من لديه سجل كامل عن كيفية وصول هذا وذاك الى ما وصلوا اليه بسبب «تحايلهم» على القانون أو على الاخلاق المقبولة في مجتمعهم. ولديه سجل كامل «بالانجازات» التي وصلوا اليها في الوقت الذي هم لا يستحقونها بالاساس. هذه النغمة في الحديث - ومع الايام - تدفع هذا الانسان ليبرر لنفسه القيام بانواع التحايل نفسها التي ينتقد بها الآخرين ويتهمهم بالقيام بها.

أما التركيز على الامور الصحيحة فيدفع الانسان إلى الاتجاه الاصح. فعلى العكس من متابعة ومقارنة اولئك المتحايلين، يمكن للمرء ان ينظر الى الاكثرية العظمى في أي مجتمع، وهي اكثرية تحترم نفسها وتكدح من اجل عيشها الكريم. يمكن للمرء ان ينظر الى ذلك الرجل أو المرأة أو الشاب الذي لا يضيع وقته في توافه الامور، وانما يتعب من اجل تحصيله العلمي والعملي، وكيف ان أمثال هؤلاء (وهم أكثرية في كل المجتمعات) يتلذذون بما يحصلون عليه في حياتهم حتى ولو كان قليلا، لانه من تعبهم وجهدهم.

توجيه الذات يأتي دائما عبر ما يسمى «بالايحاء الذاتي» بمعنى ان الانسان يستوعب في ذاته وعقله الباطن امورا يوحيها لنفسه باستمرار، فالشخص الذي يوحي لنفسه ان الدواء المعين هو الذي يعالج وجع الرأس لديه، فانه مع الايام لا يقبل دواء غير ذلك الدواء، وكذلك رأسه لا يتخلص من الوجع الا اذا تناول ذلك الدواء. جانب الايحاء الذاتي من اهم الاساليب التي تعتمد عليها الدعايات التجارية، فكثرة تكرار دعاية معينة - على شاشة التلفزيون مثلا - تركز في العقول ان لبس نوع معين من الثياب يوفر للشخص مزايا القوة أو الهيبة أو الفرح أو أي شيء آخر. وهكذا يرى الشخص نفسه متجها لشراء تلك الثياب من دون ان يتذكر بالضرورة الدعاية التلفزيونية. فالمهم ان تلك الدعاية تمكنت من عقله الباطن وأوحت له بالتحرك لشراء تلك الثياب.

هذا يوضح خطورة الدور الذي تقوم به بعض المؤسسات الاعلامية لاسيما سينما هوليوود التي يسيطر عليها اناس لديهم رسائل محددة يسعون لايصالها دائما إلى الجمهور. فالمخرج سبيلبيرغ يعرف بالضبط نوعية الرسالة التي سيغرسها في الوجدان وفي عقول مشاهدي افلامه في جميع انحاء العالم. افلامه تعرض الجانب المأسوي الذي تعرض له اليهود في المانيا وأوروبا، كما تعرض افلامه كيف يساهم اليهود في الدفاع بأرواحهم عن الحرية التي ينعم بها الغربيون في بلدانهم. وسبيلبيرغ لديه موازنة دول، بل انه كلف من قبل صديقه الشخصي بيل كلينتون برعاية مهرجانات الاحتفال نهاية القرن العشرين، ولو قارن الانسان بين ما يطرحه سبيلبيرغ وغيره في الافلام والدعاية عن مظلومية اليهود ودورهم... الخ. وبين ما تطرحه الدعاية نفسها والسينما ضد المسلمين والعرب فانه لا يستغرب كيف ينتج عن ذلك ثقافة تحقير للعرب والمسلمين وثقافة تعظيم لغيرهم.

أحد الاشخاص قال انه حضر دورة تدريبية عن «السلامة في الصناعة» في الولايات المتحدة، وهو موضوع علمي ليست له أبعاد سياسية بصورة مباشرة، وأثناء الدورة عرض فيلم لتمثيل ما يجب عمله فيما لو حدث تسريب لمصنع غازات نفطية. وأثناء العرض هذا، كان هناك ممثل اخذ دور مذيع الاخبار في التلفزيون. وعندما اورد هذا الممثل خبر التسريب، علق قائلا: «وقد صرح مسئول رسمي بان هذا الحادث ليس تخريبا وانكر ان الاعتقال الذي طال ثلاثة من الارهابيين العرب بالامس له أية علاقة بحادث التسريب في المصنع» هذا الفيلم التدريبي تعرضه تلك المؤسسة على مئات من المتدربين القادمين من مختلف انحاء العالم ليتعلموا كيفية المحافظة على سلامة مصانعهم، ولكنهم ايضا يحملون معهم رسالة تدخل الى عقولهم ووجدانهم تقول لهم: انتبهوا لعامل «الارهاب العربي» الموجود في منطقتكم، لا يوجد هناك ارهاب يهودي، ولا ارهاب اميركي ولا ارهاب اوروبي ولا ارهاب ياباني، هناك فقط «ارهاب عربي» والارهاب صفة ملازمة لك ايها العربي المتطفل على الحضارة التي بناها غيرك من البشر

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 270 - الإثنين 02 يونيو 2003م الموافق 01 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:43 م

      موضوع جميل

      شكراالموضوع مختصر ومفيدالايحاء استخدم في الحروب منذ اقدم العصور لتدمير معنويات العدو

اقرأ ايضاً