العدد 2792 - الأربعاء 28 أبريل 2010م الموافق 13 جمادى الأولى 1431هـ

تايلند بين البوذية والإسلام (2-2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

الخامسة: إن المسلمين في تايلند مع انتمائهم للشعب التايلندي والدولة التايلندية فإن لهم هويتهم الثقافية والدينية، ومن الضروري الحفاظ عليها في هذا الإطار دون مبالغة أو تشدد، وعلى الدولة التايلندية بأغلبيتها البوذية أن تحترم ذلك؛ لأن جوهر الفلسفة والمثل والقيم الإسلامية لا تتعارض معها. وإذا كان النظام السياسي التايلندي ديمقراطياً، ويقوم على الحرية الاقتصادية، فمن الضروري أن يسمح بانصهار الأقليات وفي مقدمتها الأقلية المسلمة في المجتمع فهي ليست قليلة العدد، وهي المكون الثاني الرئيسي من مكونات المجتمع. وهذا لمصلحة استقرار المجتمع التايلندي بطوائفه وأعرافه وأقاليمه كافة ولمصلحة تقدم ورفاهية الشعب. وأعتقد أن المسئولية تقع على الطرفين أي الأغلبية والأقلية في العمل من أجل الهدف المشترك، وهو التعايش في مجتمع واحد وفي وطن واحد بحقوق وواجبات متساوية تسمح بالاستفادة من كافة طاقات المجتمع بأسره.

السادسة: إن تايلند كدولة تهتم بالانفتاح على العالم بحضاراته وثقافته لكي تكون معبراً للتجارة والاتصالات، والالتقاء بين حضارتي شرق آسيا وجنوب آسيا، بل وبين العالم بشرقه وغربه، وهذا أحد نقاط القوة في التجربة التايلندية، ومن المنطقي أن تمارس ذلك في ربوع وطنها، وتمارس الانفتاح على المكون الإسلامي في بلادها، وأن تتيح له ممارسة حقوقه الدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية كاملة كمواطنين، ولا تنساق للدعاية المضادة التي تصور الإسلام بأنه إرهاب أو أن المسلمين يسعون للانفصال؛ لأن هذه الدعايات يغذيها اعتباران: أولهما كراهية الآخر، وثانيهما انحشار الأقلية في المجتمع وتقييد حريتها ومساهمتها فتشعر بالغربة في وطنها، ومن ثم تلجأ للبحث عن ملاذ آخر، حتى لو كان مثل هذا الملاذ وهمياً بالانفصال، وأنا لا أشجع ولا أدعو لانفصال أية أقلية عن مجتمعها، بل الأصل أن يكون المجتمع مكوناً من عناصر وأعراق وديانات وعقائد مختلفة. فالتنوع يثري وسيطرة فريق يمثل أغلبية عددية في المجتمع تمثل وصفة غير جيدة بل سيئة لتطور المجتمعات، وتؤدي للصراع الذي لا ينتهي بين الأغلبية والأقلية سواء كانت تلك الأغلبية سياسية مثل العلاقة بين الحكومة والمعارضة، أو أقلية اقتصادية مثل العلاقة بين الأغنياء والفقراء، أو أقلية عرقية أو اجتماعية في علاقة الطبقات والأعراق بعضها ببعض أو أقلية ثقافية ودينية. إن التركيز على القاسم المشترك الأكبر هو الذي يحقق التقدم، والحفاظ على الهويات الثقافية هو الذي يضمن التنوع ويثري المجتمعات، أما الصراع والسيطرة فهي وصفات للتفكك والتدهور والانحلال، وتاريخ حضارات البشرية خير شاهد على ذلك. ومن نفس المنطلق ندعو الأقليات الدينية والعرقية والطائفية للتصرف بحكمة ومسئولية وإدراك الآثار بعيدة المدى للتصرفات والمواقف المتشددة.

السابعة: أهمية ألا تهمل السلطات المركزية مناطق الأقليات والمناطق الحدودية، مما يؤدي بها إلى إحساسها بالاغتراب في وطنها، وإضعاف روح الانتماء من ناحية، وإلى معاناتها اقتصادياً من ناحية أخرى، وهذا يدفعها للمواقف المتطرفة التي لا تهدد مجتمعاتها ودولها فحسب، بل أيضاً الأمن والسلام والازدهار العالمي، ولعل إهمال مناطق ودول مثل الصومال وأفغانستان خير شاهد على ذلك، في حين تقديم المساعدات والمعونات وإدماج المناطق المهمشة يمثل الأسلوب الأنجع في دفع مسيرة الشعوب للأمام من خلال تعاون مكونات مجتمعاتها كافة، ولتحقيق هذا الهدف لابد من إعادة تخصيص الموارد نحو مزيد من التنمية البشرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والحد من الفساد والرشا، والإنفاق على التسلح.

الثامنة: أهمية الشراكة المجتمعية وتحديد مجالات عمل دقيقة لكل فرع أو جهاز من أجهزة الدولة، وإن التوتر والصراع السياسي المستمر في تايلند خلال السنوات الأخيرة لا يبشر بالخير لاستقرار وأمن وازدهار الدولة، ولعل مرجع ذلك عدة اعتبارات منها تطلع القوى السياسية للعمل ضد بعضها بعضاً بعيداً عن احترام قواعد العمل السياسي والبرلماني من ناحية، وتدخلات بعض أجهزة الأمن من ناحية أخرى، وإن كان الجيش التايلندي حافظ على حياده حتى الآن، فإن الخشية أن يحدث انقسام فيه، أو أن يتم تسييسه لصالح فريق ضد آخر في صراعهم السياسي. ومن ناحية ثالثة ضرورة الحذر من التدخلات الخارجية في اللعبة السياسية الداخلية، وخاصة أن تايلند ذات موقع استراتيجي بالغ الأهمية في الصراع الدولي بين القوى الآسيوية الصاعدة بعضها بعضاً، وبينها وبين القوى المهيمنة على مقاليد السياسة الدولية منذ أواخر القرن العشرين، هذا فضلاً عن دور مؤسسات وأجهزة استخباراتية عالمية وخاصة شرق أوسطية، تسعى لجعل بانكوك مركزاً لعملياتها، وبعض تلك الأجهزة تنتمي لدول مارقة في السياسة الدولية سواء تم وصفها بمصطلح المروق أم احتضنتها قوى عظمى تقوم بحمايتها من إطلاق مثل هذا الوصف بل وتحميها ضد أية عقوبات كان يمكن أن تفرض عليها لعدم احترامها قرارات الشرعية الدولية، ومن ثم تستمر في احتلال أراضي الغير بالقوة، وترفض الاعتراف بحقوق الشعب الذي تحتله أو الانسحاب من الأراضي المحتلة، بدعوى الحقوق التاريخية أو غيرها من الدعاوى الوهمية والتطلعات التوسعية غير المشروعة التي تعبر عن القرن الحادي والعشرين وفكره.

إن السبيل لخروج تايلند من أزمتها الراهنة هو فرض الأمن والنظام على كافة ربوعها واحترام حقوق الأقليات، والسماح لها بمشاركة مجتمعية حقيقية للحفاظ على دورها السياسي في المجتمع وعلى هويتها الثقافية.

التاسعة: إن المعالجة الأمنية للإرهاب وحدها غير مجدية لأن أعمال القمع والقتل والاعتقال وغيرها تزيد المعاناة وتقوي التطرف وتنشر الخوف الذي رد فعله مزيد من العنف ولكن معالجة قضايا التشدد الإسلامي في جنوب تايلند تأتي عبر المزيد من التوعية بالمفاهيم الإسلامية الصحيحة واحترام الثقافة والقيم الإسلامية وتعزيز عمليات التنمية والاندماج المجتمعي، ولاشك أن قوى المجتمع المدني وعلماء الدين عليهم دور ومسئولية في هذه العملية، كما أن السياسيين والنخب المثقفة ورجال الأعمال عليهم دور أكبر في هذا الإطار من خلال توفير فرص العمل وإقامة المشروعات لتطوير المناطق الفقيرة والمتخلفة.

العاشرة: إن التفكير المستقبلي وليس الانحشار في الماضي هو المخرج من الأزمات، فمناطق جنوب تايلند كان بعضها تابعاً لسلطنة المالاي، ولكن منذ القرن الخامس عشر سيطرت عليها تايلند التي توسعت في أقاليم عديدة أخرى. والآن من الصعب تصور أن تقبل دولة قامت وتطورت لعدة قرون إعادة عقارب الساعة للوراء، وخاصة أن أقاليمها متواصلة وممتدة، وليست استعماراً من وراء البحار، ومن ثم فإن قبول الأمر الواقع الذي فرضه التطور السياسي والتاريخي المعاصر واعتبارات السياسة الدولية، في ظل قيام الدولة الوطنية، وفي ظل التطورات المستقبلية والتكتلات العالمية والإقليمية، كل ذلك يدعونا للقول بأن النزعات الانفصالية أياً كان منطقها، وأياً كانت دعاواها التاريخية والثقافية من الصعب قبولها، أو تركها تحقق أهدافها، طالما ظلت الدولة قوية وسلطتها المركزية قابضة على زمام الأمور، وطالما ظلت الأوضاع السياسية الدولية كما هي في ظروفها الراهنة، ومن ثم فلا مناص من قبول الأقليات في كثير من الدول لمفاهيم التعايش مع المكونات الأخرى في مجتمعاتها في إطار من الحقوق الوطنية المتساوية للجميع. وهنا تلعب القوى الإقليمية ودول الإقليم دوراً مهماً في كبح مثل تلك النزعات الانفصالية أو في دفعها لمزيد من التشدد ومن ثم الصراع، ولذلك فإن التعاون الإقليمي السياسي والاقتصادي يعد من الوسائل المهمة لحل النزاعات الإقليمية.

إن الشعب التايلندي يتميز بحيوية كبيرة وإخلاص في العمل وإتقان في الأداء ونسبة التعليم أكثر من 92 في المئة وهذا يمثل ضماناً للعمل العقلاني ووسيلة للتقدم، ونتمنى له الاستقرار والأمن والأمان بتعاون بين عقيدتي البوذية والإسلام، بعيداً عن مفاهيم الإقصاء والكراهية والعداء وبعيداً عن التدخلات الخارجية التي تثير مكونات المجتمع ضد بعضها بعضاً.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2792 - الأربعاء 28 أبريل 2010م الموافق 13 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً