العدد 2800 - الخميس 06 مايو 2010م الموافق 21 جمادى الأولى 1431هـ

كونت ومرحلة الانتقال من التفسير إلى الإصلاح

نشوء النخبة الأوروبية (12)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عاصر أوغست كونت (1798 - 1857) الفرنسي (من أسرة كاثوليكية) تجارب الثلاثي الاشتراكي المثالي (سيمون، فورييه، أوين) وتعايش في الفترة الأولى من حياته مع سان سيمون واشتغل معه في ترتيب شئونه وجمع المعلومات التي يريدها لتوظيفها في برامجه وخططه.

اكتشف كونت ثغرات كثيرة في نهج أستاذه وبدأ يختلف معه في موضوع استقراء المعرفة واستنباط الحلول الواقعية للمشكلات التي أخذت تطرأ على المجتمع. كونت كان أكثر واقعية في رؤيته للأمور، فهو خالف الثلاثي الطوباوي في التعامل مع الحالات الوضعية وبدأ يفكر بإيجاد وسائل موضوعية للسيطرة عليها تختلف عن تلك البدائل الرومانسية.

اختلاف كونت مع معلمه في العام 1824 شكل بداية لإعادة التفكير من خلال قراءة عقلانية للمشكلات والبحث في حلول وضعية للازمات غير طريقة الهروب من المجتمع والارتحال عنه والبدء في تأسيس «مدينة فاضلة» من الصفر. كونت أدرك مبكراً أنه لا مناصّ من ابتكار الحلول واستنباطها بشرط أن تكون آتية من المجتمع وتلك المنظومة المعرفية والعمرانية التي توصل إليها تطور البشر. فالحل برأيه يأتي من داخل الجماعات لا من خارجها في اعتبار مسألة استمرار التقدم موضوعة لا نقاش فيها ولكنها تحتاج إلى إدارة عقلانية (هندسة المعارف) للسيطرة عليها تبدأ بتوحيد العلوم وترتيب أصنافها وصولاً إلى إعادة أدراجها في نظام تربوي يربط العلم بالحياة السياسية للبشر.

كونت الذي تأثر بأفكار سيمون ومثاليته وكان على صداقة معه (1817 - 1824) انتهت على خلاف في القراءة والمنهج، لأنه رأى أن التاريخ خاضع لقانون تطويري. فالإنسان «حيوان» عنده تاريخ. والتاريخ يتطور معرفياً على مراحل ثلاث: اللاهوت (الماورائيات)، والميتافيزيقيا (ما بعد الطبيعة)، والعلوم (الصناعة والفيزياء الاجتماعية).

التطور التاريخي برأي كونت انتج مناهج تكيفت زمنياً مع كل حقبة. فالمرحلة اللاهوتية ابتكرت المنهج اللاهوتي (التفسير الديني)، والمرحلة الميتافيزيقية ابتكرت منهج ما بعد الطبيعة (التفسير التخيلي للعالم والكون)، والمرحلة العلمية (الفيزياء الاجتماعية) لابد لها من ابتكار منهج وضعي (عضوي) يقرأ واقع البشر من خلال رؤية علاقات الاجتماع.

انتقال فلسفة كونت الاجتماعية من الميتافيزيقية (ما بعد الطبيعة) إلى الفيزيائية (الطبيعة) جاء على قاعدة التطور الذي شهدته القارة الأوروبية خلال القرون الأربعة الماضية. وتطور حركة المعارف العلمية (العلوم الفلكية، الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، الطب، الميكانيك، البيولوجيا) ساهم في توليد منظومات معرفية تقرأ التاريخ في إطار الجغرافيا (الطبيعة)، ما أدى إلى إعادة توظيفها في إطار العقلانية (الذاتية) ثم استثمارها في إطار الاجتماع البشري (الجماعات الأهلية).

كونت كان أكثر التصاقاً من رعيل المثالية الاشتراكية بالواقع وتعقيداته وتفاعلاته (ديناميكياته) وتداعياته الاجتماعية، لذلك يعتبر أول من استخدم مصطلح «علم الاجتماع» الحديث، وهو في طليعة من صاغ قواعده المنهجية اعتماداً على البرهان والملاحظات التجريبية. وهذا الاكتشاف البحثي لم يحصل من دون مقدمات نظرية صاغها علماء الفلسفة الطبيعية وعلماء فلسفة العلوم وما تفرع عنهما من منظومات استخدمت الفيزياء والهندسة والطب والرياضيات لتطوير المعرفة والتوصل إلى قراءات تتجاوز اللاهوتي والماورائي وما وراء الطبيعة.

عاش كونت بداية حالات من القلق المعطوف على التفاؤل والطموح الذاتي بإحداث ثورة فكرية على منوال كانط وهيغل، فاستند في مطلع مشروعه الفلسفي على ديكارت محاولاً ابتكار فلسفة هي أشبه بالعقلانية الديكارتية ما دفعه لاحقاً إلى تصنيف العلوم وترتيب حقباتها الزمنية مستفيداً من إنجازات رعيل فلاسفة القرن الثامن عشر. وحين توصل إلى صوغ قواعد انطلاق الفلسفة الوضعية (علم الاجتماع) أخذ بنشر الجزء الأول من أبحاثه في العام 1830، ثم الجزء الثاني في العام 1839، والثالث في 1842، والرابع في العام 1850.

كان هدف كونت من وراء نشر المنظومة العامة للمفاهيم التوصل إلى وضع نظام للأفكار يساعد على تنظيم الوقائع بقصد دراسة الظواهر الاجتماعية في اعتبار أن الحل لا يكون إلا من داخل تلك العلاقات. فالعلم الذي حاول كونت تقديمه يقوم على فكرة ابتكار نظام يرتب علاقات التبادل بين الإنسان والمجتمع من محطات الديني والطبيعي والعقلاني إلى الاجتماعي. كل هذه المحطات هي علوم عصرها ولابد لها من أن تتطور للرد على تحديات عصره.

حتى يتوصل إلى هذه المحطة قام كونت باستخدام منهج ديكارت العقلاني وربطه بأرسطو ثم دمجه بنظريات نيوتن الفيزيائية فاكتشف أدوات تحليل تستطيع ربط المنظومة العامة للمفاهيم الأمر الذي ساعده على تناول نظرياتها في نظام للأفكار يتمتع بوظيفة خاصة وهي: تنظيم النظام المعرفي في إطار مراعاة العلاقات الواقعية بين الظاهرات الاجتماعية.

هذه الوظيفة الاجتماعية للفلسفة نقلت منهجية التفكير العقلاني من درجة التفسير إلى مرتبة التنظيم (فلسفة عملية واقعية وضعية) إذ أصبح للعقلانية مهمة جديدة وهي ضبط التربية وتنظيم المجتمع.

فالفلسفة وفق منهجية كونت ليست رؤية ماورائية أو تهرباً من الواقع إلى «مدينة فاضلة» ومتخيلة خوفاً من مشكلاته وإنما هي مهمة إصلاحية تنظيمية تشرف على اعتماد نظام تربوي يرتب علاقات البشر وفق رؤية عقلانية عملانية.

فلسفة كونت الاجتماعية (الواقعية الوضعية) جاءت رداً على فوضى الأفكار وفوضى الإنتاج في عصره الانتقالي الذي بدأت تعصف الموجة الثانية من الثورة الصناعية بجذوره التاريخية وأعمدته التقليدية (شبكات الرعاية الكنسية). فالفوضى في الأفكار كانت بحاجة إلى هيكلة وإعادة هندسة للمعارف تعتمد على نظام تربوي تراتبي يضبط إيقاع التطور ضمن محطات مبرمجة زمنياً. والفوضى في الإنتاج تحتاج بدورها إلى مؤسسات تنظم المجتمع وترعاه وفق خريطة إصلاحية متدرجة عقلانياً تتعامل مع الواقع كما هو ولا تتخيل ذهنياً تصورات طوباوية مثالية (على غرار الثلاثي الاشتراكي) في عالم يشهد متغيرات ومتحولات دائمة.

شكلت فلسفة كونت الوضعية (الاجتماعية) نقطة تحول في التفكير العقلاني لأنها نقلت منظومة الأفكار من طور التفسير والتأمل إلى طور التنظيم (الإصلاح) ومهّد هذا المنهج الطريق إلى بدء نمو وعي متقدم يطمح إلى مرتبة أعلى من درجة الإصلاح.

وهذه المرتبة الثورية (تغيير المجتمع لا إصلاحه وتنظيمه) سيلعب الثنائي (ماركس/ انغلز) الدور الأساس في وضع تصوراتها وقوانينها بهدف التعديل الشامل للعلاقات الاجتماعية.

أحدثت منهجية كونت الاجتماعية الوضعية نقلة نوعية في مجال الفلسفة حين دفعتها من إطار الكلام العام (التفسير) إلى إطار الفعل الميداني (التنظيم العقلاني للمجتمع) أي من طور التأويل النظري إلى مهمة التعديل والتهذيب.

لاقت إضافات كونت ردود فعل واعتراضات على جوانبها المثالية أيضاً. كونت أكثر واقعية من أستاذه وصديقه المثالي سيمون ولكن واقعيته احتضنت جوانب مثالية كانت تحتاج إلى تصويب حتى تتحقق. نيتشه «المجنون» مثلاً انتقد طابعها التنظيمي العقلاني (الوضعي) بينما قام صديق داروين والمدافع عن أفكاره ونظريته هربرت سبنسر بانتقاد تصنيف كونت المفتعل والمختصر للعلوم وتراتبها التاريخي ونموها التطوري الطبيعي.

جاءت الانتقادات والملاحظات في سياق متحولات جديدة تأسست على تطور العلوم والتقنيات من جانب وتلك التفاعلات التي انتجتها الموجة الثالثة للثورة الصناعية من جانب آخر. فهذه المتغيرات أحدثت بدورها نقلة تطورية في وعي النخبة الأوروبية ودورها العملاني وأنماط تعاملها مع «مجتمع جديد» حطم مرجعية الكنيسة وأخذ بإنتاج مرجعيات غير متوافقة على البديل التاريخي. وأدى تعدد المرجعيات إلى فتح باب التنافس العقلاني - المختبري على آفاق لا متناهية بدأت بالعودة إلى تحديد أصل الإنسان و»العلة الأولى».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2800 - الخميس 06 مايو 2010م الموافق 21 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:40 م

      المرجعية الدينية

      موضوع قيم و يظهر جذور التفكك الاول للكنيسة من عدة مفكرين ساهمو في فتح جديدة للعلم. التطورات و التحورات التي ساهمت في تحول اروبا من دول كاثوليكية الى دول حضارية اخدت نواتها الاولى من عدة مفكرين. و يبين التاريخ انه منذ منتصف القرن الثامن عشر بدات اروبا تخطو في اتجاه التطور العلمي بعيدا عن جهل الكنيسة. و الان تعاني الدول العربية و الاسلامية او لنقل بانها تمر في نفس الحالة التي مرت بها اروبا منذ 150 سنة ماضية, اذ ان نسبة التخلف عالية, و الخرافات لها من يزكيها. و باسم الدين يتم قتل الابرياء.

    • زائر 1 | 6:29 ص

      عبد علي عباس البصري

      شنهو السالفه يا اخ انويهض ليش اكثر ما تكتب عن التاريخ الاوربي فقط في الفرن السابع عشر والثامن عشر ليش ما تتعدى الى غير ذلك ؟؟ مع كون كتاباتك مفيده . ارجو اليك التوفيق .

اقرأ ايضاً