العدد 298 - الإثنين 30 يونيو 2003م الموافق 29 ربيع الثاني 1424هـ

المعرفة والكمبيوتر وتخزين البراغماتية

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

«لا تتثاءب»... هكذا كان يصرخ احد المدرسين عندما يتثاءب احد طلابه. واذا كرر الطالب ذاته التثاؤب يطلب منه المدرس الخروج من الصف لاكمال تثاؤبه ونومه، والمدرسون يعانون اكثر من غيرهم من المشكلة، وبعضهم تصيبه العدوى فلا يستطيع الحديث مع طلابه إلا اذا تثاءب هو نفسه. وتكرار كتابة «التثاؤب» تعدي الكاتب والقارئ، ولذلك سأستعيض بكتابة (...) مشيرا إلى التثاؤب ومشتقاته الفعلية.

والـ (...) يرمز إلى حال من الملل او الاسترخاء او عدم الاهتمام بالمتحدث او صعوبة الحديث المطروق. ويشعر الفرد انه يختنق لقلة الاكسجين ولذلك يسارع إلى شفط كميات هائلة من الهواء. وكلما شعرت بالحاجة إلى (...) فإنني أتذكر ذلك المدرس الذي كان يصرخ على الطلاب اثناء (...)، وأحاول ألا اقوم بهذا الأمر امام متحدث لكيلا اشعره بأنه شخص ممل أو حديثه ممل. وربما اكثر ما يزعج المرء هو ان تتصل هاتفيا بأحد الاشخاص الذين تعودوا الحديث مع الآخرين اثناء (...).

ومن تلك الموضوعات التي تتحداني اثناء قراءتي لها نظرية المعرفة. وأحاول جاهدا السيطرة على نفسي لعلمي بأهمية الموضوع ولكنني اشعر بجفافه دائما. ولكن موضوع المعرفة خرج الى الساحة العامة أخيرا لكثرة الحديث عن ثورة المعلومات والكمبيوتر وعن امكان انتصار الكمبيوتر على الانسان. وقبل عدة سنوات أثير جدل كبير عندما انتصر الكمبيوتر المسمى (Deep Blue) على افضل لاعب شطرنج في العالم. وعليه فسأتطرق إلى الموضوع واستدرك القارئ ونفسي بالنقاط الثلاث المقوسة لاعطاء الفرصة لسحب المزيد من الاكسجين.

يقول اصحاب المنهج العقلي إن المعرفة الحقيقية تنتج عن اعتماد العقل الانساني على بديهيات اساسية واستخدامها في تحليل القضايا التي يواجهها الانسان. ولعل الرياضيات هي افضل الامثلة التي توضح السبيل إلى تكوين المعارف واستنتاج التحليلات على اساس البديهيات العقلية (...).

ثم هناك المدرسة التجريبية (او الاستقرائية) التي تعتمد على استقراء القضايا الجزئية من خلال الملاحظة والتجربة واستنتاج القصور العام بعد تجميع هذه الاجزاء المحللة على اساس نظرية الاحتمالات (...).

ومنذ ان بدأ افلاطون وارسطو يتحدثان عن هذا الموضوع والفلاسفة يحاولون التقريب او الخلط بين هذين الاتجاهين في التكوين المعرفي. وهناك بعض الفلاسفة من اعتبر نفسه حركيا يسعى إلى تغيير الظروف المحيطة به بينما اعتبر فلاسفة آخرون دورهم يقتصر على فهم العالم المحيط بهم. ومن اولئك الذين حاولوا الخروج من التقسيم الثنائي للمعرفة من قال بضرورة معارضة الشيء بضده (الديالكتيك) لتمحيص الامر والوصول إلى روح الحقيقة (...). وهناك من قال بضرورة العمل بارادة حرة وفعل الشيء للوصول إلى هدف معين (الوجودية) لتكوين المعرفة. وان السعي إلى هدف يعني وجود نية وان هذه النية تقوم على الاختيار (...). وهناك من قال ان اية فكرة يمكن تنفيذها والانتفاع منها فهي معرفة حقيقية (البراغماتية). (...) الخ. الخ.

الآن ارجوك ان تتوقف عن الـ (...) لنتساءل عن علاقة كل هذا الكلام بالكمبيوتر وثورة المعلومات؟ وهل يستطيع الكمبيوتر تخزين الديالكتيكية والوجودية والبراغماتية او اية مدرسة اخرى في الفلسفات التي لا تنتهي وبعدها ينتصر على الانسان في الحقل المعرفي؟ الجواب ينحاز إلى جانب الانسان، بمعنى ان الانسان هو المسيطر حتى لو انتصر الكمبيوتر في الشطرنج، لماذا؟

إن الكمبيوتر يتعامل اساسا مع الرموز والارقام، والكمبيوتر يستطيع ان يختزن الرموز والارقام وينتصر على الانسان في ذلك، والرموز والارقام تتحول إلى معلومات بعد ربطها، او تلخيصها، او تجميعها بطريقة تعطي المستخدم للكمبيوتر فرصة الاستفادة من الكم الهائل للرموز الاساسية. فلو جاء فرد ما بربطة كبيرة من الارقام التي دخلت الكمبيوتر فانه لن يستطيع فهمها. ولكن بعد ان تتحول هذه الارقام والرموز الى ملخصات تقول مثلا إن نسبة المتعلمين او المتفلسفين قد زادت 10 في المئة فإن الحال تختلف. لان المعلومات اصبحت قابلة للفهم والاستخدام في حياتنا اليومية. والكمبيوتر بامكانه الانتصار على الانسان في جانب المعلومات هذه، ولكن المعلومات ليست بالضرورة معرفة. فالمعرفة تتعلق بالتصورات والمعتقدات، وهذه التصورات تخضع لعوامل كثيرة من ضمنها الظروف المحيطة والخبرة التي استحصل عليها الانسان اثناء حياته. والمعرفة تختص باكتشاف الحقيقة التي قد تظهر فيما لو استهدى الانسان بأكثر من الرموز والارقام والمعلومات المتوافرة.

ولعل المسلسل التلفزيوني (Star Trek) قد حاول مرة التفريق بين المعلوماتية والمعرفية عندما اراد الشخص المسمى «Spock» ان يتخذ قرارا بإرسال كوكبة فضائية لانقاذ اشخاص آخرين.

وسبوك هذا (كما يصوره المسلسل) مخلوق ليست له مشاعر او عواطف وليس من بني آدم، وانما هو شخص يعتمد على المنطق والعقل في كل تصرفاته، ولديه قدرة تفوق الكمبيوتر في وضع جميع قراراته تحت تصرف حساباته المنطقية الخارقة. وعندما اراد ان يرسل تلك الكوكبة الفضائية كانت حساباته العقلية الخارقة تقول له ان انقاذ اولئك الاشخاص مستحيل. ولكنه بعد ان صمت فترة قرر ارسال الكوكبة التي انقذت اصحابه (من بني آدم). وقبل نهاية الحلقة سألوه كيف خالفت كل حساباتك وارسلت الكوكبة فلم يجب. ولعله كان قد تأثر باصدقائه الآدميين الذين لديهم القدرة «فوق المنطقية» التي تهتدي بهدي خالقها ووحي فطرتها للوصول إلى الحلول التي تخرج الانسان من الورطة وتجعله سيدا لما حوله من الطبيعة وسيدا للكمبيوتر ايضا

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 298 - الإثنين 30 يونيو 2003م الموافق 29 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً