العدد 2996 - الخميس 18 نوفمبر 2010م الموافق 12 ذي الحجة 1431هـ

النظام الغربي لن يتمكن من السيطرة على الأزمة المتأصلة

لئلا ييتمنا دوال «الحضارة الغربية» (4)

محمد خاتمي comments [at] alwasatnews.com

ولو تساهلنا فاعتبرنا القرن السادس عشر الميلادي بداية عهد الغرب الجديد الذي يمثل، على نحو ما، تاريخ الإنسان أيضاً، فسنجد أن الوضع في أواخر رابع قرن من عمر «المدنية» الحديثة يختلف اختلافاً جوهرياً مع ما كان عليه في البداية، إذ يمكن أن نشاهد بوضوح آثار التعب والهرم والضعف الداخلي على محيا هذه الحضارة، وأن نسمع، بمثل هذا الوضوح، الدعوات المنطلقة على مدار العالم إلى نظام جديد.

إن ما أنجزته البشرية في مجال الحرية لم يلب، على اتساعه، طموحات البشرية جمعاء، ذلك أن هذه الحرية ذات البعد الواحد - النابعة من الأفق الواحد الذي يحمله إنسان عهد الغرب الجديد - صارت هي نفسها سبب صعوبات كبيرة في حياة الإنسان.

إن الإنسان مهما زاد من قدرة تصرفه في الطبيعة، ومهما تمكن من التغلب على الكثير من الآفات والأمراض، ومهما أزال من الصعوبات والعقبات من طريقه، فلا يسعه التغاضي عن واقع الحرمان الذي يرزح تحته الملايين من البشر.

لقد نظر الإنسان الغربي في بداية المرحلة الجديدة من حياته، وفي سعيه إلى توسيع آفاق الحياة - نظر إلى العقل والدين بعين الشك، وسرى ارتيابه، فيما يخص الأنظمة والمؤسسات والآداب والمذاهب التي كانت قائمة باسم الدين في المجتمع، إلى جوهر الدين، فاعتمد على أبسط وسائل الإنسان وقواه، (الحواس والميول النفسانية)، ليدرك حياة العالم ونشاطه.

وكانت التطورات والتحولات التي لحقت بالحياة على قدر من الشمول والتأثير، ما زاد في غرور الإنسان الغربي الجديد، فلم يدرك أن العقل والدين إذا نحيا جانباً زال الاطمئنان واليقين اللذان يشكلان ركني سعادة الإنسان ومركز ثقلها، وسندها، وغدا الإنسان محكوماً بالكآبة والحيرة وهو ما حصل بالفعل.

لقد استطاعت الحضارة الجديدة، في مرحلة شبابها وكمالها، أن تسد «الفراغ» الذي اعتور الإنسان الغربي خلال مروره من العصور الوسطى إلى العهد الجديد، بالاستفادة من قدرتها الباطنية والذاتية. لكن عندما بدأت قوة هذه الحضارة بالتراجع لم يجد الإنسان - الذي لا يسعه التقدم دون قوة ودافع محرك - برجوعه إلى خزانة حضارته، أثراً من الغنى والإشباع، وهو ما أثار فيه الملل والقلق والاضطراب.

الإنسان الغربي في صدر الحضارة الحديثة، وإن سعى ليطرح الدين و»علم ما بعد الطبيعة الفلسفي» جانباً، أو ليجعلهما ينسجمان مع احتياجاته وآماله الدنيوية، كان شديد الأمل بأن يملأ الفراغ الذي أحدثته تنحية علوم ما وراء الطبيعة والتعاليم الدينية بالرياضيات والعلم التجريبي، وكانت الاكتشافات والاختراعات التي غيرت في كل لحظة وجه الحياة والطبيعة عاملاً مهما في رفد الاعتداد بالنفس لدى الإنسان الجديد، وتأييد صحة الطريق الذي اختاره.


المستقبل

إن ما حصل، إثر انهيار حضارة العصور الوسطى، أغرى الإنسان الجديد الذي كانت الطبقة الوسطى مظهره، فوظف جميع ما توصلت إليه الحضارة الناشئة لتحصيل المزيد من الثروات والإمكانات المادية، ووضعه في تصرف مشروعه لإزالة جميع الموانع الطبيعية والأخلاقية والاجتماعية من طريق كسب القدرة والثروة والشهرة.

ورغم أن القوة الداخلية لهذه الحضارة كانت تبدو باقية إلى غير نهاية، فإن الوضع لم يدم على هذا المنوال، إذ سرعان ما اتضح أن الحضارة الجديدة، مثلها في ذلك مثل جميع أمور هذه الدنيا، نسبية ووقتية ومحكومة بالتغير.

تواجه الحضارة الغربية اليوم صعوبات كبيرة وثقيلة كبر هذه الحضارة وثقلها. ووجه الطبيعة والحياة والمجتمع البشري اليوم، في نهاية القرن الرابع من عمر هذه «الحضارة»، وإن تغير في ظل المنجزات العظيمة في مجال العالم والصناعة، والمهارات الإنسانية الجديدة، فإن مشكلات هذه الحضارة كانت ومازالت كبيرة أيضاً، وعدم الالتفات إليها والتنبيه عليها مضر ليوم الإنسان وغده.

وعلى أية حال، فمهما كانت حصيلة هذه الحضارة، فإنها ليست أبدية، فتحلل قواها الداخلية علامة واضحة على تناهيها ومحدوديتها. ونتائج تحلل القوى هذه بادية للعيان في عجز هذه الحضارة عن الإجابة على الأسئلة والاحتياجات المتجددة من جهة، وفي الاطمئنان وتراخي سلسلة الآمال التي كان الإنسان قد علقها على هذه الحضارة ومستقبلها المتألق في أوائل المرحلة الجديدة من جهة أخرى.

فلا أثر اليوم لتفاؤل الماضي، فيما يخص العلم وقيمته وحجيته وقدرته المطلقة. فكل طالب للعلم يعرف أن العلم الجديد ليس إلا اختيار «فرضية» من بين «الفرضيات»، وتطويرها واختبارها بمعايير التجربة والدراسة المنهجية. وتبتني الفروض وانتخابها طبعاً على مزيج من تخمينات، و»أصول موضوعية» فلسفية ودينية وخرافية أحياناً.

إن قيمة العلم الجديد تنحصر بالإجابة عن الصعوبات والأسئلة التي تحدث للإنسان، وتتغير تبعاً للزمان والمكان، وقد يطاح في أية لحظة بأشهر النظريات العلمية. ومع هذا الجو لا يمكن النظر إلى المعطيات العلمية على أنها حقائق أزلية.

كما أن نتائج وعواقب استقرار الرأسمالية وصناعية المجتمع، أدت إلى بروز مصائب عظيمة واضطرابات كبيرة عانت منها البشرية جمعاء، وكانت أحياناً صدمات مدمرة أخرى نزلت على جسد الحضارة الجديدة. إن هذه النتائج والعواقب بعيدة عما تصوره منظرو الليبرالية الأوائل. والسعي المتواصل للمتأخرين من أهل الرأي والعمل في الغرب لإصلاح هيكلية نظام الغرب الاقتصادي والسياسي مهما أطال من عمر الحضارة، لن يتمكن، على ما يبدو، من السيطرة على الأزمة المتأصلة في الحضارة ذاتها.

لا نشك أن المستقبل يحمل في طياته الكثير من المفاجآت، وأن السياسة لن تبقى على ما هي عليه، ولأنه كذلك نتساءل بقلق: ماذا ترانا أعددنا، ونعد، لنشارك في صياغة مستقبل الإنسان، أو مستقبلنا على الأقل؟ وبأي زاد ترانا تزودنا ونتزود على عتبة هذا التحول الخطير؟

إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "

العدد 2996 - الخميس 18 نوفمبر 2010م الموافق 12 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً