العدد 2996 - الخميس 18 نوفمبر 2010م الموافق 12 ذي الحجة 1431هـ

مقتل السلطان الصديق وضياع الجاه

مغادرة ابن خلدون الأندلس (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أخيراً حصل ابن خلدون على مراده السياسي (منصب الحجابة) في الوقت المناسب وفي سن مناسب (34 سنة) بعد كفاح طويل اتهم خلاله بالتآمر وحيكت ضده المؤامرات وسجن وطرد وكاد يختنق من حسد صديقه الوزير في غرناطة.

لاحظنا سابقاً كيف ينظر ابن خلدون إلى وظيفة الحجابة فهو يراها، كما يقول، و»معنى الحجابة، في دولنا بالمغرب، الاستقلال بالدولة، والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته، لا يشاركه في ذلك أحد» (التعريف، ص 499).

في أجواء الفرح ومشاعر الغبطة ركب ابن خلدون «البحر من ساحل المرية، منتصف ست وستين. ونزلت بجاية الخامسة من الإقلاع، فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي، واركب أهل دولته للقائي. وتهافت أهل البلد علي من كل أوب يمسحون أعطافي، ويقبلون يدي، وكان يوماً مشهوداً» (التعريف، ص 499). وتسلم وظيفته في الدولة وأخذ يرتب أمورها ويقوم بتدبير أمور سلطانه الذي كلفه بوظيفة ثانية وهي «الخطابة» في جامع القصبة. وسرعان ما عاد الثقافي في شخصه إلى النهوض إلى جانب السياسي فأخذ بعد كل انصراف في تدبير شئون الدولة يعكف على «تدريس العلم اثناء النهار بجامع القصبة» (التعريف، ص 500).

ما كادت تكتمل دائرة الطموح من الحجابة (السياسة) والخطابة (الدين) إلى التدريس (الثقافة) حتى بدأت تظهر بوادر خلل لا يشجع على الاستقرار. فنظام القرابات عاد للتبعثر ليعبث من جديد بمصيره ومستقبله.

يعود ابن خلدون إلى صورة المشهد السياسي في مذكراته (التعريف) ويذكر أنه وجد بين صاحب بجاية الأمير أبو عبدالله وبين أبن عمه صاحب قسنطينة (السلطان أبو العباس) فتنة «أحدثتها المشاحة في حدود الأعمال من الرعايا والعمال» (التعريف، ص 500). ويقرأ الصراع بطريقة مركبة فهو لا يعزل نظام القرابات واضطرابه عن اضطراب نظام المعاش وتقلص الثروة وضعف الجباية والاستبداد السياسي، فكلها في تحليله عوامل متداخلة ومندمجة حتى لو طغى عليها طابع القرابة والتنازع على الحكم والسيطرة على الثغور. إلى ذلك تلعب التدخلات القبلية المجاورة دورها في زيادة الاضطراب خصوصاً تلك الأطراف المستفيدة من ضعف القوى واصطراعها.

لا يقرأ ابن خلدون الحوادث في تلك المرحلة كمؤرخ شاهد على تداعيات الصورة في المسرح التاريخي. فهو في هذه اللحظة ليس مراقباً للحدث بل يشارك في صنعه. فمنصب الحجابة يتطلب منه التدخل ولعب دور في ترتيب المشهد. وقراءة أسلوبه في المعالجة تكشف الكثير من جوانب تفكيره السياسي ومستوى وعيه لتعقيدات المرحلة وتداخل عواملها.

كيف تصرف صاحب المقدمة في معالجة الأمر؟

يتهم ابن خلدون العرب (ويقصد القبائل العربية الساكنة بجوار الثغور) بإثارة نار الفتنة وهم من قبائل الدواودة و»كانوا في كل سنة يجمع بعضهم لبعض، فالتقوا سنة ست وستين (766هـ/ 1364م) بفرجيوه، وانقسم العرب عليهما». فأيد يعقوب بن علي السلطان أبو العباس (صاحب قسنطينة) فانهزم السلطان أبو عبدالله و»رجع إلى بجاية مغلولاً، بعد أن كنت جمعت له أموالاً كثيرة انفق جميعها في العرب» (التعريف، ص 500). فابن خلدون يحلل الحدث إلى عناصر مجتمعة. فهو يشير إلى الصراع بين صاحب بجاية وأبن عمه على الجباية و»حدود الأعمال من الرعايا والعمال»، إذ كان أولاد العم يجتمعون كل سنة في منطقة يطلق عليها فرجيوه وهناك يتم التنازع أو تقاسم الثروة. وكانت قبائل الدواودة ترجح كفة هذا الجانب أو ذاك في حال حصول الخلاف وقيام النزاع. وقبل موعد اللقاء السنوي قام ابن خلدون بجمع المال لصاحب بجاية لشراء موقف تلك القبائل والحصول على تأييدها، لكن انقسام القبيلة على نفسها وتأييد أحد فروعها صاحب قسنطينة قلب الموقف وأطاح بكل التوقعات فانهزم صاحب بجاية وعاد مفلسا إذ «لما رجع أعوزته النفقة».

ماذا فعل ابن خلدون؟ وخرجت «بنفسي إلى قبائل البربر بجبال بجاية المتمنعين من المغارم (دفع المال) من سنين، فدخلت بلادهم واستبحت حماهم، وأخذت رهنهم على الطاعة، حتى استوفيت منهم الجباية، وكان لنا في ذلك مدد وإعانة» (التعريف، ص 500). ببساطة استثمر ابن خلدون المنازعات القبلية، فإذا كان سلطان قسنطينة استغل دوافع القبائل العربية الساكنة في السواحل وبين الثغور قام صاحب الحجابة باستغلال دوافع القبائل البربرية المتمركزة في الجبال والمتمردة على أصحاب المدن وترفض دفع الجباية وأقنعها بالدفع لحماية المنطقة من غلبة القبائل العربية وانكسارها أمامهم.

أذن هناك القبيلة وتوظيف التحالفات القبلية. وهناك المال وجبايته بتقاسم النفوذ على «حدود الأعمال من الرعايا والعمال». فالمسألة عنده مركبة تجمع بين القبيلة وتحالفاتها وانقساماتها، ثم القبيلة وجنسها (عرب، بربر)، ثم المال الذي يزيد إذا اتسعت رقعة المنطقة ويتقلص إذا تراجعت حدود الرعايا والعمال.

إلى ذلك هناك عامل آخر وهو نظام القرابة الذي يتقلص بانقسام الأخوة وأبناء العم والخال أو يتسع بالمصاهرة. وهذا ما يأتي على ذكره بعد أن عاد من جبال البربر محملاً بأموال الجباية حين يقول «ثم بعث صاحب تلمسان إلى السلطان أبي عبدالله يطلب منه الصهر، فأسعفه بذلك ليصل يده به على أبن عمه، وزوَّجه ابنته». وبمصاهرة صاحب بجاية صاحب تلمسان الذي أصبح الآن «زوج البنت» اتسعت رقعة العصبية فانحازت تلمسان إلى جانب بجاية في صراع الأخيرة ضد قسنطينة. فالصهر وضع يده بيد السلطان أبو عبدالله في حرب الأخير ضد أبن عمه.

وجاءت السنة التالية (767 هـ/ 1365م) وتم الاستنفار حسب الموعد الدوري. وكان خصم صاحب بجاية (أبن عمه السلطان أبو العباس) قد نجح بدوره في تأليب «أوطان بجاية» وكسب إلى جانبه أهلها (رعايا وسكان مناطق الثغر ومصدر خراجه) بسبب تشدد السلطان أبو عبدالله عليهم. وهكذا انحاز أهل البلد (المناطق) ضد صاحب الثغر (بجاية).

وخرج السلطان أبو عبدالله لمدافعة السلطان أبو العباس فاعتصم في جبل ليزو تحسباً للمواجهة. لكن صاحب قسنطينة لجأ إلى أساليب الحيلة بدلاً من الحرب فقام باغراء «ابن صخر وقبائل سدويكش» واستخدم «جموع الأعراب من أولاد محمد بن رياح» لمعرفة مكان خيمته، ونجح أبو العباس في الأمر و»كبسه في مخيمه وركض هارباً، فلحقه وقتله» (التعريف، ص 500). وهكذا انتهت طموحات ابن خلدون في أقل من سنة (766 – 767 هجرية) بمقتل صاحب بجاية وصديقه.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2996 - الخميس 18 نوفمبر 2010م الموافق 12 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:57 ص

      تاريخنا

      السلام عليكم
      الاستاذ وليد نويهض انا من المتابعين لك كل جمعة لان من المحبين للتاريخ وكم احب تاريخنا نحن الشرق من قبل الاسلام وبعده من مبعث محمد (ص) الى قصة الامام الحسين الى دولة الامويين وانتهائها مع دولة العباسيين وقيام عبدالرحمن الداخل باحيائها في الاندلس ووصول محمد بن عامر بجزئية في هذا التاريخ الى امراء الطوائف امثال المعتمد محمد بن عباد وسقوط حكام الطوائف على يد المرابطين ...
      اتمنى منلك المواصلة والافادة لنا وشكرا لك لجهودك

اقرأ ايضاً