العدد 312 - الإثنين 14 يوليو 2003م الموافق 14 جمادى الأولى 1424هـ

الحقد غير المقدس

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

قبل عدة سنوات (في العام 1998) هجمت مجموعة من القوات الصربية على قرية مسلمة في كوسوفو. القرية لم تستطع الدفاع عن نفسها كما هي الحال مع القرى والمناطق السكنية التي حرقتها القوات الصربية. رجال القرية فكروا في خطة انسحاب لحماية الانفس. قرر الرجال الانفصال عن النساء والاطفال اعتقادا منهم بأن القوات الصربية لن تلمس النساء والاطفال اذا كانوا من دون رجال.

توجّه الرجال الى مواقع قريبة في الغابة المجاورة بينما توجهت النساء مع اطفالهن إلى منطقة أخرى في الغابة. القوات الصربية دخلت القرية وسرقت وحرقت ودمرت كل شيء امامها. بعد يومين من الهجوم وهدوء الوضع توجّه الرجال الى جهة النساء في الغابة، وهناك كانت الفاجعة، اذ يروي أحد الرجال كيف رأى جميع اهله من النساء ذبحن بالسكاكين. احدى النساء كانت حاملا ولذلك توسطت السكين بطن الأم وبقرته. الدماء تغطي كل امرأة وكل طفل والرجل يقلب الجثث الواحدة تلو الاخرى، ثم يقرر الانصراف لتهدئة روعه من رؤية تلك المذبحة.

وما هي إلا لحظات واذا بجسد ابنته الرضيعة يتحرك، ابنته كانت مغطاة بالدم وبدا وكأن الذبح طالها، وخصوصا ان الدماء غطت جسدها، غير انه اكتشف ان طفلته الرضيعة كانت حية ومازالت حية بعد ان قُطعت القصبات الهوائية لأمها وخالتها وبقية الاطفال والنساء. فتحت الرضيعة عينيها في وجه ابيها الذي امسك بها صامتا لا يستطيع النطق، لا يستطيع البكاء، لا يستطيع ان يعبِّر عما يختلج في نفسه. احتضن رضيعته وأقسم ألا يبكي وذهب طالبا الرحيل الى المحكمة الدولية في لاهاي للادلاء بشهادته قبل ان يسمح لعينه ان تدمع. فالدمع والبكاء لن يرجعا إليه زوجته أو النساء أو الاطفال ولن يرجعا إليه قريته التي احرقها الحقد الصربي. هذا الحقد الذي تبناه الحكم الصربي بقيادة ميلوسوفيتش الذي لم يتوقف لحظة واحدة عن بث الاحقاد في نفوس امثاله من البشر.

يستغرب المرء من قدرة الانسان غير المحدودة على تنمية الحقد الذي يمكّنه من القيام بعمل بشع ومجزرة ضد اطفال ونساء ابرياء. يستغرب المرء كيف يستطيع شخص مثل ميلوسوفيتش ان يستثير الاحقاد التي تحوِّل الانسان الى وحش ضد أخيه الانسان. ما قيمة هذا الانسان الذي ينطلق بدوافع الكراهية والعداء؟ ما قيمة «الانجازات» التي قد يحققها هذا الانسان بدافع حقد أعمى؟

ميلوسوفيتش دعا إلى إحياء ذكرى المعارك بين المسيحيين والمسلمين التي جرت قبل أكثر من خمسة قرون، ودعا إلى الاقتداء بكل شخص قتل مسلما، وكل قيصر حارب العثمانيين وجهز الجيوش ضد المسلمين. خمسة قرون مضت على كل هذا ولكن هناك من بإمكانه اعتبار ما حدث من انتصار للمسلمين قبل خمسة قرون «قضية معاصرة» يجب الانتقام منها اليوم.

قيل ان الشخص الذي يغضب ولا يستطيع كظم غيظه أو انه يعجز عن رد السبب الذي اغضبه فإنه يحوّل ذلك الغضب الى قلبه ليتحول مع الايام الى حقد. والحقد يعني ان ذلك الشخص يستثقل ويبغض وينفر من الشخص الذي يعتبره السبب في إثارة غضبه. واذا حقد المرء فإنه يطور ذلك الى الحسد، ثم الاستعداد لايذاء الطرف المبغوض بأية وسيلة ممكنة... كل هذا ممكن للمرء ان يفهمه، إلا ان الصعب فهمه هو قدرة الانسان على اختزان تلك الاحقاد لكي ينفس عنها في وقت لاحق. وهذا الوقت اللاحق هو خمسة قرون أو يزيد!

لقد تحدث الماركسيون عن «الحقد الطبقي» الذي ينتج عن التمايز المادي وكيف ان الفروقات بين الافراد والجماعات بسبب توافر المادة لدى طرف وانعدامها أو قلتها لدى طرف آخر تتسبب في الصراع بين ذلك الطرف ونقيضه. وتحدث آخرون عن «الحقد المقدس» الذي يدفع بالطبقة الكادحة إلى الوقوف ضد الطبقة المرفّهة. وقد يفهم المرء دوافع حقد فئة معينة على فئة اخرى من خلال المنظور المادي، هذا المنظور الذي يقول ان الدافع إلى حركة المجتمع، وإلى الصراع داخل المجتمعات (حركة التاريخ) هو في الاساس دافع مادي، وسببه الاساسي شعور طرف بقلة المادة «المحسوسة» او انعدامها مقارنة بالآخرين الذين يراهم ويلتقيهم في مجتمعه. قد يفهم المرء هذه الأمور وقد يتفق او يختلف مع تعميم هذا التفسير المادي على العلاقات الانسانية داخل المجتمعات.

لكن عقل المرء يتوقف عندما يحاول فهم طبيعة الحقد الذي يكنّه اشخاص امثال ميلوسوفيتش في المجتمعات الاخرى. ويتوقف العقل عندما يحاول تفسير الطاقة الهائلة التي يوفرها هذا الحقد لأصحابه. الحقد الذي يمتلكه اثال ميلوسوفيتش ليس مقدسا وانما هو خصلة سيئة تحوِّل الانسان الى حيوان مفترس، واي مجتمع يبحث عن الاصلاع ينبغي ان لايسمح لامثال ميلوسوفيتش بث سمومهم تحت اي عنوان وذريعة

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 312 - الإثنين 14 يوليو 2003م الموافق 14 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً