العدد 312 - الإثنين 14 يوليو 2003م الموافق 14 جمادى الأولى 1424هـ

«الخوف» القاسم المشترك بين قوات الاحتلال والعراقيين

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

«الخوف» وإن اختلفت دواعيه ومصادره يجمع العراقيين باختلاف انتماءاتهم السياسية والطبقية والمهنية واعمارهم، وهو يجمعهم في الوقت ذاته مع قوات الاحتلال. فالجميع خائف في عراق اليوم، الطفل، الكبير، المرأة، الرجل، الشاب، الموظف، المهني، العامل البسيط، الكاسب، الغني، الفقير، قوات الاحتلال ورجال المقاومة. الكل يخافون والكل يتشاركون الخوف الذي يدب في النفوس، وينهش العقول، ويعطب الروح، ويسرع من دقات القلوب. وقصص الخوف تتكرر في كل ساعة وفي كل يوم.

«حميد عبدالله» الاستاذ الجامعي الساكن في حي الامين ببغداد يقول: «منذ احتلال بغداد وغياب الامن... صرت أتلقى تهديدات متواصلة من اناس مجهولين عبر الهاتف، بأنهم يطلبوني بثأر، وانهم سينتقمون مني عاجلا ام آجلا. فتشت في ذاكرتي من يكون هذا الذي يدعي انه لديه ثأرا عندي. لم تفلح ذاكرتي في ايجاد الجواب. الفزع بدأ يلازمني واسرتي في كل تحركاتنا، ومضت الايام والاسابيع ولأنه لا توجد مرجعية قانونية استند عليها للحماية رحت افكر في البحث عن دار اخرى استأجرها، واتخلص من كابوس التهديد».

ويواصل الاستاذ الجامعي حديثه عن رحلته مع الخوف، ويضيف « قبل ايام وانا عائد الى منزلي من الجامعة. وجدت احدهم يخرج من باب منزلي مسرعا واصوات عيارات نارية تنطلق من الدار المجاورة لداري. ودخلت داري لأجد زوجتي في حالة شبه اغماء وابنتي تنتحب، وعلمت بما حدث. لقد حضر رجلان مسلحان الى منزلي، وعندما فتحت ابنتي الباب الخارجية لداري دلف الرجلان مسرعين، ليصلا في ثوان الى داخل الدار بينما كانت زوجتي مضطجعة على اريكة. إذ كانت الابواب والنوافذ مشرعة بسبب الحر وانقطاع التيار الكهربائي، وضع احدهما حربة بندقيته على رقبة زوجتي والثاني وجّه مسدسه صوب ابنتي اخبرتهما زوجتي أنها لا تملك شيئا عدا الاساور في يدها؛ فأخبراها انهما لم يأتيا بقصد السرقة، وانما يريدان قتلي، واستفسرا عن موعد وصولي، وانهما سينتظراني حتى اعود الى المنزل، وكان ولدي في الطابق الثاني وقد سمع حديثهما فهم بفتح باب السطح وعبر شرفته انتقل الى بيت الجيران ليبلغهم ان سارقين اقتحما الدار وان امه واخته تحت طائلتهما، وكان الرجلان سمعا صوت باب السطح وهو ينفتح، فصعد احدهما الطابق العلوي مرتبكا، ولأن الجيران سرعان ما صاروا يطلقون العيارات النارية فإنه زاد ارتباكهما وقررا في اللحظة الاخيرة وقبل وصولي المنزل مغادرته بعد ان أخذا اساور ذهبية من يد زوجتي».

ويواصل الاستاذ الجامعي روايته، والدموع تكاد ان تنفجر من مقلتيه، ليقول: «فهمت زوجتي من كلام احدهما معها، انه قبل عشرة اعوام قام احدهما بسرقة اطارات سيارتي الخاصة خلال الليل من كراج داري، ولاني ابلغت الشرطة وتمكنت من الوصول اليه من خلال الادلة الجنائية التي عثرت على طبعات اصابعه فسجن بسبب ذلك سنتين، ولاقت خلال هذه السنتين عائلته ظروفا عصيبة بسبب عدم وجوده بقربها، ولذلك قرر الانتقام مني عندما تسنح الظروف، وها هي الظروف قد سنحت!».

ورحلة الدكتور حميد مع الخوف اخذت ابعادا دراماتيكية بعد ذلك، اذ يقول: «بعد ان فهمت الامور على النحو الذي جرت عليه واسباب ذلك، قررت وعائلتي ترك منزلنا، وذهبنا مشتتين الى الاقارب. زوجتي الى اهلها، وابني وابنتي الى بيت اختي، وانا ذهبت الى بيت ابن عمي، وصار الاقارب يواصلون الذهاب مرات عديدة كل يوم للاطمئنان على منزلنا، وبعد ثلاثة ايام اكتشف انه في الليلة السابقة تمت سرقة الكثير من الحاجات من داري منها الكمبيوتر وعدة مكيفات هواء وبعض الحاجات الاخرى، وليترك السراق بعض قناني الكحول الفارغة، وقنبلتين يدويتين في المطبخ كتبا بقربهما انها هدية سميتا لي».

ولم تنته رحلة الخوف بالنسبة الى الاستاذ الجامعي بل انها متواصلة، بعد ان قرر تأجير منزله ونقل اثاثه وتشتيته عند الاقارب، ويقول انه يخشى استئجار منزل بديل، كي لا يتتبعوه الى المنزل الجديد، وانه شتت اثاثه للتمويه، على امل ان يقوم بعد اشهر باستئجار دار جديدة لا يخبر احدا عنها ليلم شمل اسرته، ولكنه الآن يعيش فزعا متواصلا خشية ان يصطاده احد فيقتله. الوساوس والافكار والهواجس تلاحقه ككوابيس مستمرة في صحوه ومنامه... يفكر بالسفر الى خارج العراق، لكنه يستبعد الفكرة لأنها مازالت غير متاحة بسبب عدم منح سلطات الاحتلال جوازات السفر، ولكن ايضا يخشى ان يكون هدف الراغبين بالانتقام منه احد افراد اسرته اذا لم ينالوه. يحاول ان يصبّر نفسه في ظل هواجس الفزع التي تلازمه كل ساعة باستعادة الامن الذي يمكن ان يردع هؤلاء الناس، ولكنه يشعر ان الفزع تحول الى آفة تنهش جسمه الذي اصبح نحيلا الى الحد الذي يمكن ان يقرب فيه من الموت بعد ان اصبح لا يطيق نفسه ولا الكلام ولا الشراب ولا الاكل.

«جرثومة الخوف» وان كانت تكاد ان تصيب الجميع عدا هؤلاء الاشقياء الذين تحالفوا معه، فإنها تأخذ مآخذ شتى من كل واحد. وكل منهم يعزوها الى سبب او آخر. فالفوبيا التي يعاني منها (ابو زينب) سببها تلك السيارة اللعينة التي اشتراها قبل الحرب بأسابيع، ورغم انه «كفنها» وأودعها كراج منزله وصار لا يستخدمها بعد ان تزايدت حوادث سلب السيارات وحوادث القتل في الشوارع بغية الاستيلاء على السيارات الحديثة، فإن فوبياه من هذه السيارة ازدادت اكثر خلال الاسابيع الماضية بعد ان انتشرت حوادث مداهمة المنازل وقتل اصحابها بغية سرقة سياراتهم. والمشكلة انه اذا اراد التخلص منها عبر بيعها، فهي الآن لا تجلب له إلا نصف ثمنها.

والفوبيا عند السيدة «أم محمد» تتأتى من الخروج الى الشارع، لذلك فإنها لم تبرح منزلها لثلاثة اشهر، وهي لا تزور منزل اهلها على رغم الحاح الاولاد، وذلك بعد ان كثرت الاحاديث عن اختطاف سيدات من الشارع حتى لو كن برفقة ازواجهن او اخوانهن. وتقول ان الخوف عندها تقلص بعد انتهاء الاولاد والبنات من اداء امتحاناتهم، ولم يعد احد منهم يبرح المنزل. اذ انتشرت حوادث اختطاف الاولاد والبنات الصغار بهدف طلب الفدية. وبعد بروز ظاهرة اختطاف الفتيات بهدف الاغتصاب، وحادثة اختطاف طالبات جامعيات منذ حوالي شهر ونصف كن متوجهات صباحا الى كليتهن من مايكروباص بعد ان ضرب سائقه ضربا مبرحا شكلت مصدر خوف وقلق بالغين لمعظم العوائل البغدادية التي لديها طالبات جامعيات.

«حسنين فاهم» الطالب في السنة النهائية بكلية المنصور يقول ان مصدر خوفه عمليات المقاومة التي تستهدف جنود الاحتلال وقطعاته. فهو يخشى ان يصادف مروره بالشارع قرب مدرعة او عربة اميركية تكون عرضة لنيران المقاومة التي قد يصاب فيها عراقيون، ويكون هو من بينهم، او انه يذهب ضحية اطلاقات الجنود الاميركيين العشوائية التي تنهمر احيانا بلا مبرر ولمجرد شعور و«شعور» فقط من قبل هؤلاء الجنود الاميركيين بخطر او هواجس خطر يداهمهم.

«كلما خرجت من البيت أبدأ في الصلاة من اجل العودة بسلامة»، هذا ما تقوله المترجمة «ديانا بطرس» التي تعمل مترجمة مع قوات التحالف، انها تخشى الانتقام من قوات المقاومة اذا ما عرف انها تعمل مع قوات التحالف، لذلك فإنها تتكتم على عملها ولا يعرف بهذا العمل سوى اسرتها حتى الجيران لا يعرفون انها تعمل مترجمة مع قوات التحالف.

والمهندس «هيثم دوحي» يقول انه تلقى تهديدات مجهولة بضرورة ترك عمله مع قوات التحالف، وهو لا يعرف كيف يتصرف... هل يترك عمله الذي يؤمن له دخلا جيدا في هذا الوقت العصيب إذ البطالة تنتشر في العراق بأرقام فلكية الآن، ويضيف «لقد تعرضت للضرب المبرح من قبل شباب ملثمين طلبوا مني ترك الوظيفة».

«زينب صادق» المحاسبة في مصرف الرشيد فرع المأمون، تقول: «إن الخوف قائم في كل مكان واي مكان بسبب فقدان الامن والانفلات القائم»، ولكنها تشعر بخوف اثناء وجودها في مقر عملها، لأن المصرف محروس من قبل عربات ومدرعات اميركية، وهي تخشى كما تقول «من عمليات المقاومة التي تستهدف هذه العربات والمدرعات». وتزيد انها اتفقت وزميلاتها في العمل ان يتغيبن عن العمل خلال الاسبوع المقبل بعد ورود بيانات من المقاومة بأن عملياتها ستتحول الى نار صاعقة تحرق القوات المحتلة اينما تكون اعتبارا منذ منتصف يوليو الجاري.

الرسام التشكيلي «عبدالحسين تويج» يعترف بمشاركته العراقيين الخوف الذي يسيطر على الجميع، والذي يدفعه الى حرص متزايد حتى انه لا يفتح باب منزله قبل ان يتأكد من هوية من طارقه، ولكنه يقول انه يخشى مداهمة الاميركيين لمنزله كما حدث مع جار له اقتادوه هو وزوجته واطفاله الى مكان مجهول، وهاهم وقد مضت عليهم خمسة ايام ولم يعودوا، ولا يظن ان هناك سببا لاعتقالهم او سببا لمداهمة منزلهم، ويضيف «ربما هي مجرد شكوك». وامام علامات الاستغراب التي يبديها مستمعوه يقول عبد الحسين انه سبق ان خاض تجربة الاعتقال على ايدي الاميركيين، ويقول: «لقد كنت وزميل لي قد ذهبنا الى النجار السيد ابراهيم المعروف لدى الرسامين العراقيين، والذي يصنع الاطارات الخشبية للوحاتهم. وبينما كنا في محل العم ابراهيم داهمنا الاميركيون وقادونا جميعا بطريقة مزرية ومتعسفة وتحمل الكثير من الإذلال الى ثلاثة معتقلات انتقلنا اليها خلال ستة ايام ثم اطلقوا سراحنا في الناصرية من دون ان نعرف اسباب الاعتقال». ويضيف «لقد كانت تجربة مريرة وقاسية لم اشهد مثلها طوال حياتي».

طبعا انفسهم الاميركيون صاروا يكابدون الخوف، بعد العمليات المتلاحقة التي تستهدفهم، وصاروا يخافون التجول في الشوارع او دخول المطاعم كي لا يتعرضوا للقتل، وصاروا لا يبرحون معسكراتهم إلا اذا اضطرهم الواجب الى القيام بذلك. وانهم خلال النهار وطالما امكن ذلك يغرون الاطفال بتقديم المرطبات والحلويات كي يلتفوا حولهم لربما تكون اجساد الاطفال دروعا تمنع الهجمات ضدهم؛ ودواعي الخوف عندهم صارت تدفعهم الى اطلاق النار بشكل عشوائي ليلا وربما لمجرد الحفيف الذي ينتج عن حركة الاشجار او لمجرد حركة تصدر عن قط او كلب. إنه الخوف الذي يطال الجميع بما في ذلك رجال المقاومة الذين يخفون انضمامهم الى المقاومة وتصديهم لقوى الاحتلال حتى عن اصدقائهم خوفا من الوشاية بهم، الكل يخاف في العراق اليوم و«الفوبيا» تسيطر على الجميع

العدد 312 - الإثنين 14 يوليو 2003م الموافق 14 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً