العدد 3193 - السبت 04 يونيو 2011م الموافق 03 رجب 1432هـ

بين الفاضل والحطب

حمد الشهابي

قاص وسيناريست بحريني

حدث هذا في النصف الأول من العام 1881م عندما جاء رجل غريب وسكن في منزل قديم بين فريق الفاضل والحطب بالمنامة، كان في نهاية العقد الرابع من عمره ذا شعر سادل على كتفه رصاصي اللون ناعم الملمس وغالباً ما كان يخفيه تحت غترته التي يلف بها رأسه معظم الأوقات، عمل في البناء، وأحياناً في صنع القراقير، وصار يذهب إلى المقاهي الشعبية بالمنامة يشتري اللحم والسمك ويطبخه بنفسه فتصدر من نافذة بيته رائحة الأكل المطبوخ وكأنها المنادي إلى وجبة لا ينفك عنها آكلها، هادئ متوسط القامة رياضي المشية، إذا نظر إلى رجل رفع حاجبيه وكأنه يحييه بروحه أو امرأة بدت من فمه ابتسامة ناعمة رقيقة وكأن جملة تحية صدرت من قلبه يحيي بها هذه المرأة، وبالرغم من كبر سنه فإن مسحة الوسامة مازالت تغطي وجهه. وكان يجلس في معظم الأمسيات أمام بيت العم عبدالجليل عبدالقادر صاحب الوجاهة والنفوذ بالمنطقة، وكأنه يراقب شيئاً في هذا البيت أو كلف بأمر ما حتى ثار أحد أبناء العم عبدالجليل ولم يتحمل السيطرة على غضبه فاندفع إلى الرجل على رغم معارضة والدته التي قالت له:

- أنت لن تستطيع أن تخذل هذا الرجل الذي جاء من حضرموت، توقفت قدما الابن ذو الخمسة وعشرين عاماً والتفت إلى والدته يسألها عن: كيف عرفت أنه من حضرموت؟

أجابته:

- وهل يخفى الأمر بين الحريم، إلا أنه يشاع أن اسمه سعيد وقد جاء إلى بلدنا يقتنص شيئاً ما! الله يعلم ما هو! فلا تزعج نفسك بصدده لأنه يصد ولا يصد.

قال لها:

- إنه هادئ ومثير للشفقة، لا يطرد ذبابة إذا حطت على جفنه! ولكنه يثير الأعصاب أيضاً.

- هه... نعم قالت له... ولكن أنصحك ألا تزعج نفسك فقط اخط خطواتك وسلم عليه

ولما خرج ابنها وسلم عليه، أوقفه سعيد قائلاً

- لقد أحسنت والدتك التصرف

- بنصيحتي، قال له

نعم إنها ترى وتعرف وتسمع ما لا يصلك يا بني! ومضى مندهشاً!

ومرت أكثر من عشر ليال وهو يكرر قدومه ويجلس على عتبة أمام بيت العم عبدالجليل إلى أن حدث ذات مرة وخرجت عجوز من البيت اسمها حمده، العجوز التي تعدى عمرها المئة سنة، وهي أيضاً العجوز التي سرقت في يوم ما وهي طفلة في الخامسة عشرة من مدينة في حضرموت، ولما رآها تفتق شيء في صدره وانكشف عن مفاجأة، جحظت عيناه ووقف مذهولاً وكأنه حقق نصراً انطوى على لذة اللقاء وهو يطلق نظراته نحوها ويتأملها تخطو خطوة تلو الأخرى، ولما اقتربت مسافة منه رفعت رأسها إليه واصطدمت نظرتها بنظرته وتوقف الاثنان عن الحركة وبات كل منهما يدقق النظر في الآخر وبدأت القلوب تتوقد ويزيد اشتعالها، لم توقف سنوات عمرها خطاها بل تقدمت إليه أكثر وقالت بصوت معتصر ومتهدج تشوبه فرحة بدت من ابتسامة:

- لقد سمعت أن رجلاً غريباً سكن الحي لكني لم أتوقع أن تكون أنت هو! سعيد! وأنا لا أصدق عيني إذ كيف أصبحت أنا في هذا العمر وأنت مازلت يافعاً قادراً على الحركة، نشطاً.

- لقد توقف عمري، قال لها.

كانا يحادثان بعضهما بعضاً وكثير من أهل الحي قد فتح نافذته يسمع ويرى ما يدور بين سعيد وحمده، ولما اقتربت منه حمده أكثر رفع يده، وعيناه قد اغرورقتا وفاضتا دمعاً، ووضعها على قمة رأسها، تفجرت السماء بصوت الرعد، وأقسم البرق على أن يضيء هذه البقعة التي وقفا فيها والمطر أن يبلل جسديهما بعد أن كان معلقاً في السماء كثيفاً في غيومها، فانهمرت قطراته وتدحرجت على الأكتاف وبللت الشفاه ورطبت الجو، وعيون أهل الحي تلاقط وتتابع ما يجري بينهما حتى اجتمع البرق والرعد في لحظة وفجرا صوتاً وضوءاً أهابا نفوس أهل الحي الذين تراجعوا خطوة عند النوافذ، فقد ترك هذا الحدث بؤرة ضوء سدت العيون للحظة، ولما انقطع البرق وهدأ صوت الرعد اكتشف الجميع أن سعيد وحمده قد اختفيا من موقعهما ولم يتركا إلا أثر قدميهما وسط الوحل

إقرأ أيضا لـ "حمد الشهابي"

العدد 3193 - السبت 04 يونيو 2011م الموافق 03 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً