العدد 3450 - الخميس 16 فبراير 2012م الموافق 24 ربيع الاول 1433هـ

في الانتقال الديمقراطي نحو خطة طريق

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

يستحضر هذا الحديث عنوانه من ندوة عقدها “مركز دراسات الوحدة العربية” بمدينة الحمامات التونسية في هذا الشهر. كان عنوان الندوة هو “الثورة والانتقال الديمقراطي بالوطن العربي: نحو خطة طريق”. وقد تشرفت بالمشاركة فيها والتعقيب على إحدى أوراقها. حضر الندوة عدد من المسئولين التونسيين، في مقدمتهم الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، التي حصدت غالبية المقاعد النيابية في الانتخابات التي جرت حديثاً.

قدمت للندوة أكثر من عشرين بحثاً، وشارك فيها ما يقرب من مئة مفكر بين باحث ومعقّب ومتداخل. شملت محاورها الخبرة الثورية العالمية التي اكتسبتها الثورات والقوى الاجتماعية التي قادتها. ولم يغب عن الندوة مناقشة دور المؤسسة العسكرية، في تحقيق الحسم، بعدد من الأقطار، وبشكل خاص في تونس ومصر.

وتعرضت أبحاث الندوة أيضاً، للدوافع السياسية والاجتماعية، وتحديداً انتشار ظاهرتي الاستبداد والفساد. لقد حرضت ظاهرتا الاستبداد والفساد على وضع قضيتي الحرية والعدالة الاجتماعية، في مقدمة المطالب التي رفعها الثوار العرب في كل مكان. ولم يغب عن إدارة الندوة تكريس جلسة خاصة، لمناقشة أثر الإعلام، من فضائيات ومواقع إلكترونية وصحف وإذاعات، ومواقع التواصل الاجتماعي: “فيسبوك” و “تويتر” و “يوتيوب” في عملية التغيير التي شهدها الوطن العربي، سواء في الإعداد للحركات الاحتجاجية، أو في التحشيد لها أثناء الحراك الجماهيري الملحمي الذي تميزت به الثورات العربية.

وقد كرست المحاور الأخيرة من الندوة، لمناقشة الثورات العربية، كل على حدة. حيث خصصت لكل بلد جلسة خاصة، وكانت الثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن، في مقدمة اهتمامات الباحثين. كما جرت مناقشة الحركات الاحتجاجية في البلدان العربية التي لم يتحقق فيها الحسم، وتركزت المناقشات على أسباب تعثر الحراك الشعبي في تلك البلدان. وقد ركزت بعض الأوراق على التكيف الاستباقي الذي أقدمت عليه بعض الحكومات للجم الحراك الشعبي، بتحقيق بعض المطالب التي طمح الثائرون إلى تحقيقها. ونوقشت تداعيات الثورات العربية، على بقية البلدان التي لم يشملها الحراك الجماهيري، وأسباب تخلف هذه البلدان عن اللحاق بما أصبح معروفاً بـ “الربيع العربي”. ولم يفت المشرفون على الندوة التعرض إلى الآثار التي أحدثتها الثورات في مجال توحيد الحركات والأحزاب الوطنية في البلدان التي تفجرت فيها تلك الثورات. وكان من الطبيعي أن يناقش المشاركون في ختام أعمال الندوة، مستقبل النظام العربي، والمواقف والتداعيات الإقليمية والدولية للثورات العربية.

ويبقى بعد هذه المقدمة، التي أخذت حيزاً كبيراً من هذا الحديث، أن نشير إلى جملة من الملاحظات، ذات العلاقة بموضوع هذه الندوة.

فالعناوين التي تصدرت الأوراق، كما سقناها بدت في كثير من الحالات مرتبكة وواسعة، ليس بالإمكان تغطيتها بعمق في جلسة واحدة. فلم يكن بالإمكان التعامل مع الحركات الاحتجاجية، وأسبابها وطريقة اندلاعها بنسق واحد. فأوضاع البلدان العربية، غير متماثلة، بما يحتم اختلاف الأدوات، والأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة فيها. فليس الاستبداد وحده، هو مبرر انطلاقها، وهو أيضاً ليس الفقر. فهناك بلدان يرتفع فيها سقف الحرية، ولكنها تعاني الفساد والفقر، وهناك بلدان أخرى يطغى فيها سقف الاستبداد ولكنها في وضع أفضل في مستوى معدلات الدخل بها مقارنة بغيرها من الأقطار العربية.

إن ذلك يعني بداهة، أن هناك مسوغات مركبة، لاندلاع الثورات العربية، تختلف في دوافعها من بلد إلى آخر، ينبغي البحث عنها. ولعل أكبر محرض على اشتعالها بوقت واحد هو ما جرى وصفه من قبل بعض الكتّاب العرب بأنه موسم الهجرة للثورة، اقتباساً من عنوان رواية “موسم الهجرة للشمال” للطيب صالح. بمعنى أن العامل الرئيس لهذه الثورات، في هذا التوقيت بالذات هو التأثير والتأثر بين مواطني الأمة الواحدة.

ثم إن التداعيات السياسية للثورات لاتزال في بداياتها. فبالكاد يمكن القول إن تونس استكملت بناء مؤسساتها التشريعية والتنفيذية. أما مصر، فرغم استكمالها للانتخابات النيابية ومجلس الشورى، والتصويت على التعديلات الدستورية، فإن أمامها مهمة تشكيل الحكومة، والانتخابات الرئاسية المقبلة، في ظل انفلات أمني لم تشهد له مثيلاً منذ عقود عدة. وفي ليبيا لاتزال الفوضى وانفلات الأمن سيديّ الموقف. والحال ينطبق على الأوضاع باليمن، التي نأمل أن تتعافى سريعاً.

في بقية البلدان العربية التي طالها موسم الهجرة، تراجعت الثورات في بعضها، وبقيت في قوة زخمها في بلدان أخرى، من دون وجود ما يشي باقتراب أزمتها من نهاية النفق. إن ذلك يعني استحالة تقديم قراءة استشرافية دقيقة تسهم في صوغ خريطة طريق للانتقال السلمي وإقامة الدولة المدنية في هذه البلدان.

ولاشك، أن هذه الثورات دفعت بعدد كبير من المثقفين العرب إلى القلب منها. فقد التحقوا بركبها أثناء مراحلها الأولى قبل الحسم. وكانوا هم كتّاب الدساتير، والمروجون للمبادئ والأفكار الجديدة. وهم أيضاً قادة الحراك السياسي، الذي أمّن للتحولات مسارها السلمي، وهم أيضاً، قادة الأحزاب السياسية، التي تنافست على حصد المقاعد بالمجالس النيابية. ويشكل الفائزون منهم، الحكومات الجديدة التي تقود السلطة في البلاد بالسنوات المقبلة. وذلك مشهد مغاير لم تعهده الأمة العربية منذ عقود طويلة.

إلا أن هذا الأمر ينبغي ألا يؤخذ على علاته. ففي البلدان العربية، التي انتصرت فيها الثورات، سينقسم المثقفون إلى شطرين: شطر في السلطة يتمثل دور المثقف والسياسي في آن معاً، ونوع آخر بالمعارضة، يواصل التحريض على التغيير، لكنه يرنو إلى بلوغ السلطة في دورات نيابية لاحقة.

وهكذا سيضطلع المثقف العربي بوظيفة السياسي، وينتقل من المثالية إلى البراغماتية. وسيتبقى بعض من الموقف المثالي في جانب الطرف المعارض، حتى تأتيه الفرصة في دورة انتخابية مقبلة لتسلم الحكم. وعلى رغم ذلك، سيبقى دور المثقف، مهماً وجوهرياً. فهو المبتدأ، الذي يصوغ النظريات والبرامج التطبيعية لإدارة الدولة والمجتمع. ولكنه يتحول خبراً، بوصوله إلى السلطة، وانتقاله إلى خانة السياسي، حيث تتاح له فرصة وضع أفكاره ورؤاه قيد التنفيذ. والخطورة هنا أن يغادر دوره كمثقف ملتزم إلى الأبد. لكن دورة التاريخ لن تتوقف. فسينبثق من رحم الواقع الاجتماعي باستمرار مثقفين جدد، سيجدون عناوين أخرى ونظريات وبرامج مغايرة لمن سبقهم. وتلك هي سنن الكون. وتبقى ملاحظات أخرى بحاجة إلى القراءة والتحليل والتأصيل

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 3450 - الخميس 16 فبراير 2012م الموافق 24 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً