العدد 3470 - الأربعاء 07 مارس 2012م الموافق 14 ربيع الثاني 1433هـ

تحديات العالم العربي... الاعتدال واللاعنف والتوافق مع الإرث الإنساني (5)

راشد الغنوشي comments [at] alwasatnews.com

.

كل ما هو مصلحة للعباد وخير وعدل ومعقول لا يمكن إلا أن يجد له مكاناً مريحاً في الإسلام، مثل مبادئ الحكم الديمقراطي وحقوق الإنسان، إلى سائر النظم والترتيبات الإدارية والإنتاجية التي ثبت نفعها للناس، وذلك إما في نصوصه الصريحة أو في مقاصده الثابتة.
وبصرف النظر عن بعض الجزئيات القليلة المختلفة مع ما ورد في الإعلانات والعهود الدولية لحقوق الإنسان التي يحدث حول بعضها الاختلاف داخل الديمقراطيات الغربية نفسها، مثل العقوبات على بعض الجنايات كجناية القتل العمد، هل يعاقب عليه بالقصاص أم بالسجن أم بالدية أم بعفو ولي الدم؟ ومن مثل الضوابط على العلاقات الجنسية ومنها العلاقات الزوجية، عدا جزئيات محدودة فإن الاتجاه العام هو التوافق والانسجام.
ونحن نؤكد أن هذا هو الاتجاه العام للحركة الإسلامية في العالم، الاتجاه صوب التوافق مع الإرث الإنساني لا التصادم، الاتجاه صوب الاعتدال ورفض العنف سبيلاً للمعارضة أو نهجاً في الحكم، إلا أن يكون دفعاً للاحتلال، والقبول بالتعددية السياسية وسائر مقومات النظام الديمقراطي، بما في ذلك التداول السلمي على السلطة.
تعرض الإسلام ولايزال مثل غيره من الأيديولوجيات بما في ذلك مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدني، لتأثيرات الجهل أو التحامل أو الرغبة المصممة في التطويع والتوظيف من قبل حكومات طاغية وجهات مغرضة ليتحول مجرد أداة، بل ربما “أبرز المعوقات الثقافية لنشر واحترام الثقافة والشرعية الحقوقية في العالم العربي والغطاء الديني الذي تضفيه بعض الحكومات والجماعات الدينية وبعض المؤسسات الدينية الرسمية وقياداتها على الانتهاكات المستمرة للحريات الأساسية في العالم العربي، أو على تحفظات الحكومات على الاتفاقيات والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان.
ورغم التجزئة السياسية التي فرضها ميزان القوة الدولي على الأمة الإسلامية، فلا هي توحدت على العقيدة كما كانت لأطول فترات تاريخها ولا توحدت حتى شعوباً على أساس المصالح، وبالخصوص العرب الذين فرض عليهم مستوى أتعس من التجزئة، ورغم أنه قد بذلت جهود جبارة لاصطناع أسس ثقافية تعطي مشروعية لهذه التجزئة فإن مشاعر الوحدة الإسلامية لاتزال قوية بين المسلمين، وتبدو بالخصوص عند الكوارث، فيتحول المسلمون قلباً واحداً يبكي المنكوب.
هوية جامعة
وقد ظل الإسلام ينهض بتوحيد يتجاوز العقيدة إلى الشعور بالهوية الواحدة الجامعة لكل معتنقيه، وإلى الثقافة والفكر ورؤية الذات ماضياً ومستقبلاً، في إطار تلك الهوية الموحدة، على نحو لا يبدو معه يسيراً إقامة معالم واضحة لفكر إسلامي قومي يناظر الدول القومية القائمة أو حتى اللغات الناطقة، بل إقامة فواصل واضحة بين فكر إسلامي عربي وآخر إسلامي غير عربي. وهي مسلمة أساسية قامت عليها بعض النقاشات، افترضت دون برهان أن المفكّرين المجددين في العالم العربي يعانون من محدودية التأثير وربما الانعزالية، وذلك مقابل ما حققه المسلمون في آسيا وإفريقيا وأوروبا من تجديد نسبي لخطاباتهم الدينية انعكس بدرجات متفاوتة على نشر واحترام ثقافة حقوق الإنسان بين مسلمي العالم غير العربي.
وأياً كان التقدير لتجديد الخطابات الدينية في العالم الإسلامي غير العربي فإن المقارنة بالعالم العربي لن تكون لمصلحة هذا الأخير، حتى لو سلمنا بصحة الفرضية، والمشكل أن العالم العربي يعاني من نقص كبير في مدى معرفته بما حققه المسلمون في آسيا وإفريقيا وأوروبا من تجديد نسبي لخطاباتهم الدينية، وأعجب ما في الأمر أن العالم العربي لايزال يتعامل مع خطاباته الإسلامية بوصفها مركزاً للفكر الإسلامي، فما صدقية هذه الفرضيات؟
أ - ليس من اليسير أن نظفر عند مسح منتوج الفكر الإسلامي على امتداد عالم الإسلام بفواصل قومية تميز شعباً من شعوب المسلمين بل دولة من دولهم، بمذهب إسلامي يتماهى مع ذلك الشعب أو تلك الدولة، بقدر ما نجد أنفسنا إزاء مدارس فقهية وعقيدية وحركات إسلامية هي امتداد للماضي أو مستحدثة، ليس منها مدرسة تتماهى مع دولة حتى أصغرها مثل المذهب الإباضي، فرغم أنه المذهب الرسمي لدولة عمان فإن أكثر من ثلث السكان على مذاهب سنية وربما كان عدد إباضيي الجزائر أكبر من مثلهم في عمان مع وجود أتباع المذهب في بلاد كثيرة.
ويصدق ذلك على بقية المذاهب الإسلامية السنية والشيعية، موزعةً في الأمة على امتداد القارات الخمس اليوم. ومعظم مسلمي أوروبا هم امتداد لأصولهم العرقية والمذهبية في البلاد الإسلامية لا يتمايزون عنها حتى الآن بشيء يذكر.
ب - ولا يختلف أمر المذاهب الموروثة عن حال مدارس التجديد الحديثة في عالم الإسلام، ليس هناك مركز وأطراف، وإنما هناك فضاء ثقافي عقدي لا يكاد يعترف بما فرض من حواجز سياسية، إذ يتعلق الأمر بالتعامل مع الإسلام، شأن المسلمين عندما يطوفون حول البيت الحرام، تختفي أو تكاد الحواجز بينهم، فلا يبقى من نداء غير نداء التوحيد، لبيك اللهم لبيك، وتتشابه المظاهر إلى أبعد الحدود حتى لكأنهم كيان واحد.
فكر معولم
بشيء من التجوز نستطيع أن ندعي أن الفكر الإسلامي معولم إلى حد كبير. إنه سوق حرة لا تتوسطها كنيسة تفرض على المسلم وساطة محددة في التوجه إلى ربه، فكلٌّ مسئولٌ عن خياره، هم يعلمون أن ختم النبوة أنهى كل وصاية على البشر، وجعل من كل مسلم خليفة لله ورسوله مسئولاً عن دينه أمام الله عز وجل، فعليه أن “يجتهد” ويسعى في معرفة الطريق إلى ربه. وسيجد نفسه وسط مذاهب كثيرة وسيستمع إلى أصوات كثيرة تجتذبه إليها، وعليه وحده تقع مسئولية الاختيار “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه” (الزمر: 18) يستمع لكل قول، ويستفتي قلبه ليتبع ما يهديه إليه اجتهاده، تلك مسئوليته.
المكتبة الإسلامية لا تعرض الإسلام دولاً وشعوباً وإنما مدارس، لذلك قد تجد مفكراً إسلامياً مقروءاً خارج الدولة التي نشأ فيها أكثر مما هو مقروء في دولته. الإمام مالك بلغة اليوم سعودي ولكنه متبوعٌ في إفريقيا، ومالك بن نبي الجزائري أحسب أنه قرئ في تونس، تأثرنا بتراثه أكثر مما تأثر به الجزائريون، وربما نكون تأثرنا بالمفكر الإيراني علي شريعتي أكثر مما تأثر به الإيرانيون، بالخصوص بعد الثورة التي همّشته لمصلحة فكر المراجع الرسمية. كما أن كتب المفكر السوداني حسن الترابي وراشد الغنوشي التي ترجمت إلى التركية أثرت في الحركة الإسلامية التركية أكثر ما أثرت في بلاد عربية.
ج - للوقوف على سر انتشار هذا الفكر هنا وضموره هناك، لا مناص من الوقوف على حاجات واقع محدد ومطالبه والتحديات التي يطرحها على الإسلاميين في تلك البيئة، فالإسلاميون الذين نشأوا في وسط تسود فيه تحديات من نوع فكري علماني اجتماعي سيبحثون عن بضاعة فكرية إسلامية عقلانية تستجيب لذلك التحدي، بينما مسلمون آخرون في قلب جزيرة العرب في نجد مثلاً ليس مطروحاً عليهم مثل ذلك التحدي ستكون قضاياهم من نوع آخر، مثل التدقيق والتنخيل في جزئيات العقائد وقضايا البدع.
تونس بين ابن نبي وشريعتي
الحركة الإسلامية في تونس مثلاً منذ ولادتها في مطلع سبعينيات القرن الماضي محاطة ببيئة فكرية معلمنة لم تطرح على نفسها قضايا الشريعة، لأن الإسلام نفسه من حيث كونه عقيدة وشعائر وهوية كان في الميزان والشك في إطار دولة شديدة العلمنة والتسلط، فلم يكن عجباً أن يجيء طرح مثل هذه الحركة للإسلام فكرياً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، إثباتاً لجدارته في ساحة الجدل مع المذاهب المادية المطروحة واستيعاباً للمطالب المطروحة في الساحة السياسية نضالاً ضد الاستبداد لمصلحة بديل ديمقراطي ودعماً للحركة النقابية العمالية ضد الجشع الرأسمالي وتأصيلاً لدور المرأة في معركة النهوض الشاملة، وكلها تحديات مطروحة في السوق التونسية.
لم يكن للحركة الإسلامية من أجل دخول السوق وإثبات جدارتها فيها دون تقديم رؤاها وبدائلها منطلقة من الإسلام مستجيبة للتحديات، وإلا نبذها السوق، فكان عليها أن تطور فكرها الذي ورثت جوانب منه عن فكر مشرقي ليست مطروحة عليه نفس تلك التحديات، فدلفت إلى السوق الإسلامية تبحث فيه عن مواد مخصوصة تستجيب تحدياتها المطروحة عليها، وانصرفت عن مواد أخرى لا تتصل باهتماماتها. مثلاً، في فكر الترابي عن دور المرأة وتأصيل الديمقراطية، وفي فكر شريعتي الأيديولوجي، وفي طرح الخميني للإسلام أنه ثورة المستضعفين، وفي فكر ابن نبي الاجتماعي في تحليل ظاهرة الحضارة، وفي فكر باقر الصدر الاقتصادي، وجدت في كل ذلك مواد صالحة وأسلحة مجدية لخوض هذه المعارك الدائرة في بيئتها. وفي ضوئها أقبلت على القيام بمراجعة فكرها وتطويره للاقتدار على استيعاب تحديات الواقع في منظورات وقوالب إسلامية، مثّلت تجربة مبكرة في تبني القضايا الأساسية في الفكر الإنساني مثل الديمقراطية نظاماً للحكم ونهجاً في التغيير، وكذا حقوق الإنسان ومنها حقوق النساء وحقوق الأقليات والنضال العالمي ضد قوى الهيمنة، وهو ما أهلنا للقاء مع مطالب العمال ومطالب الحركة الديمقراطية وقضايا تحرر المرأة والتحمس في وقت مبكر لحركة النضال ضد التمييز العنصري، هذا المنتج الفكري جاء ثمرة لتفاعل مع واقع معين يطرح تحديات معينة.
بينما الذين لم يكونوا يعيشون ذلك الواقع عندما فاجأتهم هذه الأطروحات في مطلع الثمانينيات تجهموا في وجهها واستوحشوها، بل ضللنا بعضهم وإن تناقصوا بمرور الزمن فلم تعدم الساحة بقاياهم، في حين تفاعل معها أقوام آخرون يجابهون تحديات مماثلة في المغرب الأقصى مثلاً وفي تركيا وفي إندونيسيا، فأقبلوا على ترجمتها، بينما الذين كتبت بلغتهم استوحشوها ولم يأخذوا في الإقبال عليها إلا في فترات لاحقة بعد سلسلة من المحن فرضت عليهم أن يقبلوا التفاعل والعيش في واقع تعددي.
د - قد يغري التمييز بين عالم إسلامي عربي وآخر غير عربي كما ذهب إلى ذلك مفكر ومؤرخ فرنسي حديث في كتابه “موعد مع الإسلام” اعتبر فيه أن إصلاح الإسلام حتى يستوعب قيم الحداثة ويتصالح مع الديمقراطية سيبدأ من خارج العالم العربي الذي هو ميؤوس منه بسبب هيمنة الأصولية السنية عليه وليدة فشل القومية في توحيد العرب ما أدى إلى نزعة فاشية عدوانية أفرزت ابن لادن، وأن العلاج سيأتي من خارج العالم العربي من تركيا وإيران.
قد يغري بهذا التمييز ما يلاحظ من نجاح ديمقراطي نسبي في العالم الإسلامي غير العربي مقابل فشل ديمقراطي عربي واضح، وهذه حقيقة كشفتها مؤشرات تنموية كثيرة أحلت العالم العربي في مؤخرة ركب الأمم، حتى ليصح القول إن معظم المسلمين وهم غير عرب يتمتعون بمستوى من مستويات الحياة الديمقراطية خلافاً لمعظم العرب الذين يرزحون تحت حكم أنظمة أقرب إلى الفاشية. أيعود الأمر إلى بنية مخصوصة في العقل العربي كما يزعم البعض أم هو ثمرة لفشل المشروع القومي ما أورث العرب أزمة وظهور نزعات فاشية؟ (يتبع)

إقرأ أيضا لـ "راشد الغنوشي"

العدد 3470 - الأربعاء 07 مارس 2012م الموافق 14 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً