العدد 3479 - الجمعة 16 مارس 2012م الموافق 23 ربيع الثاني 1433هـ

حذارِ من «العلجوم» والغدير الموعود

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يحكي ابن المقفع البحريني في مدونته الشهرية، أن «علجوماً» (نوع من انواع ذكر البط كبير الفم) عاش في بقعة كثيرة السمك مدة طويلة من حياته يتلذذ بأكل جميع أنواع السمك بلا حسيب ولا رقيب ولا منافس أيضاً. ومع الأيام والشهور والسنين هَرِم هذا «العلجوم» ولم يعد يستطيع صيداً؛ فأصابه جوعٌ وجهدٌ شديدان؛ فجلس حزيناً يلتمس الحيلة في أمره. وبينما هو كذلك إذ مر به صديقه وكاتم سره في الضراء السيد سرطان «كبكب»، فرأى حالته وما هو عليه من الكآبة والحزن؛ فأشفق عليه قائلاً: مالي أراك أيها الصديق «العلجوم»حزيناً كئيباً؟ فرد «العلجوم»: وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من صيد السمك الوافر في هذه الجزيرة، واليوم جاء بعض صيادي السمك إليها وقد سمعت أحدهم يقول: هنا سمك كثير أفلا نصيده أولاً؟ فقال آخر: إني قد رأيت في مكان ليس ببعيد سمكاً أكثر من هذا السمك، فلنبدأ بذلك، فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذه الجزيرة لنصطاد كل السمك الذي بها بشباكنا الكبيرة. وأضاف «العلجوم»: ومع أن هذا الذي يقومون به مخالف لقانون الصيد البحري! إلا أنني أعلم أنهما إذا فرغا من صيد السمك في الجهة التي توجهوا لها سيعودون حتماً إلى بقعتي ومملكتي هذه فيصطادون منها بقية السمك فأقعد ملوماً محسوراً.

وهنا بكى «العلجوم» حتى سعل سعلةً كادت تخرج روحه من جسده، وأردف قائلاً: في هذا سيكون هلاكي يا صديقي ونفاد عمري. فكرر صديقه «الكبكب» في نفسه: بل قل ما بقي من عمرك. إلا أن «الكبكب» الناصح الأمين سرعان ما انطلق من ساعته إلى جماعة السمك فأخبرهن بهدف صيادي السمك من إبادتهم سريعاً وضرورة البحث عن حل سريع عند صاحب الخبرة ذي العمر المديد. والغريب أن سمكات الجزيرة، بطيبتهن وسذاجتهن، أقبلن إلى «العلجوم» فاستشرنه؛ وقلن له: إنا أتينا لك طائعين لتشير علينا راضين فإن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوه! فسر «العلجوم» لهذه الزيارة ولتفكير السمكات السليم في طلب المشورة منه شخصياً، قائلاً: أما مكابرة الصيادين فلا طاقة لي ولكم بها؛ ولا أعلم حيلةً تنقذكم من الهلاك المؤكد إلا المسير إلى غديرٍ ذي ماء رقراق قريبٍ من جزيرتنا هذه، فيه سمكٌ ومياهٌ وافرة وهادرة، فإن استطعتن الانتقال إليه، كان فيه صلاحكن ونجاتكن من العدو الغادر بكم بعد حين. فقلن له: لن يساعدنا في هذا العمل غير شهم مثلك لمقدرتك على الطيران! ولا تتصوروا مدى السرور والفرح الذي دخل قلب «العلجوم» لما سمعه من سمك الجزيرة الطيب.

وبدأ هذه «العلجوم» العجوز في تنفيذ مآربه بأن قام في كل يوم بحمل سمكتين طائعتين، بلا صراع متعب مع كل السمك كما كان يفعل في شبابه وفتوته؛ من موطنهما بالجزيرة ظناً من السمك الطيب أنه سيحملهما إلى الغدير الموعود؛ وإذا به يحملهما إلى بعض التلال فيفترسهما هناك بلا رحمة ويشبع بطنه فيخف همه. وذات يوم جاء لأخذ السمكتين الأخيرتين في تلك البقعة؛ فجاءه «الكبكب» قائلاً: بحكم صداقتنا وبما أنني أيضاً قد استوحشت من مكاني هذا فاذهب بي إلى الغدير الموعود كما ذهبت بالسمكات؛ فحمله معه وطار به، حتى إذا دنا من ذاك التل الذي كان «العلجوم» يأكل السمك فيه؛ نظر «الكبكب» فرأى أكواماً من عظام السمك مجموعةً هناك؛ فعلم أن «العلجوم» الخبيث هو صاحبها وهو الذي خدعها وقد قام بكل تلك المسرحية التراجيدية أمامه من أجل افتراس السمكات الطيبات دون عناء لأنه بلغ من العمر عتيّاً ولا يستطيع المناكفة كما السابق؛ وأنه يريد أن يفعل به مثل ذلك الفعل الآن وإن كان عظمه أكثر قوة من عظام السمك الصغير.

فقال في نفسه: إذا لقي الفرد عدوه في المواطن التي يعلم أنه فيها هالك سواءٌ كان مسالماً أم عكس ذلك؛ فالأفضل أن يقاتل دفاعاً عن نفسه حفاظاً على كرامته. وما هي إلا لحظات باغت فيها «الكبكب» ذاك «العلجوم» بأن أهوى بكلابتيه على عنقه، فعصره عصرة طويلة ولم يتركه حتى فطس ومات. ثم توجه «الكبكب» إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك وأبدى أسفه وندمه لأنه عاشر ذلك «العلجوم» المخادع والجشع طوال الفترة السابقة، وأنه هو السبب في تعريض العديد من السمكات الطيبات للهتك والذبح والافتراس بلا رحمة وهذا كله ضد قوانين الصيد كما ادعى «العلجوم»، وهو هاتك كل قوانين الطبيعة.

وختم ابن المقفع البحريني حكايته بالقول الصحيح في الزمن القبيح: «وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن بعض الحيلة مهلكة للمحتال، وأن المصادقة أو الركون لكل ما يطرحه المحتال تودي إلى موارد التهلكة لا محال، فاتعظوا يا أبناء الأجيال، ولا عزاء للرجال».

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 3479 - الجمعة 16 مارس 2012م الموافق 23 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 5:22 ص

      خوش ونتمنى المزيد من أجل العبرة

      أنا أفرأ القصة وشريط الواقع يدور وانتهى القصة ولكن للشريط تكملة وكما كانت له عبر فالعبر تتواصل لتعطي الفرص لمن له نية في أن يتعظ

    • زائر 5 | 3:36 ص

      ماأكثر العبر وما أقل المعتبر

      العبر كثيرة والمعتبرون قلة وأبلغها الموت

    • زائر 3 | 12:40 ص

      راقي يبن السلمان

      ما اكملت القصه كيف انتهى العلجوم بعد ان بلع هذا المقدار من السمك هل ذهب وبطنه خاوي ام حمل له بعض الزاد لاخرته استاذ محمد قبل ايام كنت اسير خلف شاحنه خليجيه كتبت عليها حكمه تقول اجمع ما شئت سترجع كما جئت يقولون خذو الحكمه من افواه المجانين اما الان فخذو الحكمه من خلف الشاحنات ما اكثر العلاجيم في زماننا واقل الكباكب يبن السلمان......ديهي حر

    • زائر 2 | 12:39 ص

      من البر

      يكثر العلاجيم ...اليوم
      قصه وديعه اخدتني الي صفوف المدرسه لالبتدائيه الجميله والحكيمه

    • زائر 1 | 12:35 ص

      كلام من ذرر وقصة واعظة لو فهمها من يهمه الامر

      هذه مثل قصص كليلة ودمنة التي فيها الكثير من العظات
      ولكن المشكلة في المتلقي. لأن العبر يستفيد منها اولي الالباب.
      زبدة الكلام الامثال والقصص تضرب وتقص لكي يستفيد منها اصحاب العقول النيرة.
      المشكلة ان هناك عقول ولكن عليها اقفالها

اقرأ ايضاً