العدد 3646 - الخميس 30 أغسطس 2012م الموافق 12 شوال 1433هـ

قضاء ومحاكم الشعوب

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

من بين الأمور التي تحتاج الاستعجال للنظر فيها، من قبل أنظمة ما بعد ثورات الربيع العربي الناجحة والتي يجب أن تكون في رأس قائمة اهتمامات شباب الثورات حتى ولو كانوا خارج سلطة الحكم، موضوع السلطة القضائية. ذلك أنه في بلاد العرب، وعبر قرون كثيرة، وعلى رغم كل ما تقوله دساتير دولها، ظلَّت السلطة القضائية في قبضة السلطة التنفيذية تتحكّم في مكوناتها البشرية وطرائق عملها والأحكام التي تصدر عنها.

بالطبع فان النظر في السلطة القضائية يستوجب النظر في مراجعة شاملة للقوانين التي وضعتها في السابق إمّا سلطات حكم مستبدَة أو سلطات تشريع فاسدة غير شرعية أو كلتاهما بالتَّواطؤ فيما بينهما، إذ كانتا صوت نفس السيّد المتحكّم.

لكن النظر في القوانين، وعلى الأخص المدنية منها، سينتظر قيام سلطات تشريعية جديدة نظيفة وسيكون عملية بطيئة حتى في الأجواء الثورية.

وإذن فالأولوية القصوى يجب أن تعطى للجهاز القضائي نفسه الذي يعتمد عليه في فهم القوانين الشرعية والمدنية والعامة ومن ثمَ تطبيقها. هذا الفهم للقوانين لن يكون فهماً حصيفاً وعادلاً وإنسانياً ومستقلاً إلا من قبل قاضٍ عقلاني عادل إنساني مستقل عن كل أنواع التأثيرات السياسية والاستزلامية أو الناتجة عن الجهل والتخلُّف الفكري والإعداد البليد.

هنا مربط الفرس، فلقد نجح حكم الاستبداد والفساد في بلاد العرب في بناء أجهزة قضائية حكومية، بدلاً من أن تكون أجهزة قضائية مجتمعية تعبر عن ارادة المواطنين وتحميهم، أجهزة مبتلاة بكل صنوف الضعف والفساد والتخلُّف.

هذا الوضع هو الذي يحتاج الى مراجعة وإصلاح في الحال. ذلك أن كل القوانين المكتوبة وغير المكتوبة، الإلهية أو الإنسانية، العادلة أو المنحازة، تخضع بالنهاية في قراءتها وفهمها وأسلوب تنفيذها ونوع تطبيقها على الحالة الفردية لمنطق وكفاءة ونظافة ضمير القاضي.

من هنا الحاجة للإقدام على خطوتين:

الأولى: تتعلق بتكوين قومسيون أو مجلس أعلى أو لجنة يضمَّون ممثلين عن جمعيات أو نقابات المحامين والقضاة وعمداء أو كبار اساتذة القانون في كلَّيات القانون وممثلين عن وزارة العدل وبعض المستقلين المشهود لهم بالنزاهة والفكر النيّر وذلك للنظر في تطهير الجسم القضائي الحالي مما أفسدته التدخُّلات السياسية والبيروقراطية من جهة أولى ولاقتراح أسماء قضاة جدد لتعيينهم من جهة ثانية ولاقتراح، وهذه أهم مهّمة، اقتراح نظام مستقبلي لاختيار وتعيين ومحاسبة ومكافأة قضاة المستقبل من جهة ثالثة بحيث يؤدُي إلى استقلالية القضاء مستقبلاً وعدم خضوع أفراده إلا لحكم ضميرهم الديني والإنساني.

قضية القضايا إذن هي مدى استقلالية القضاء. وهذه بدورها تعتمد على نظام تعيين القضاة. والواقع أن انظمة تعيين القضاة تختلف من بلد إلى آخر. ففي بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية يتم تعيين تسعين في المئة من القضاة، على مستوى الولاية وليس المستوى الفيدرالي، بواسطة الانتخابات المباشرة من قبل مواطني الولاية، ثم يتم تعيينهم الرسمي من قبل مجلس النواب. فالقضاء هو حصيلة إرادة شعبية مباشرة.

أما في أوروبا ففي الغالب يتم انتقاء المرشحين للقضاء من قبل مجالس أو قومسيونات مستقلة تمثل الجسم القانوني والحكومة والمجتمع، ومن ثم تعيينهم من قبل مختلف جهات الاختصاص.

أي الطريقين أفضل؟

أحد الإجابات على هذا السؤال اقترحها اخيرا استاذ القانون في جامعة هارفرد، هاندلومان شوجرمان في كتابه المعنون «محاكم الشعوب» كان الكتاب محاولة لفهم العلاقة بين السياسة والقانون في بلاده لكن أظهرت دراسته الكثير من نقاط الضعف والفساد والتدخّلات السياسية في نظام القضاء. لقد خرج بمقترح مؤدَّاه أنه بدلاً من التعيين عن طريق الانتخابات الذي أصبح مكلفاً ومعقداً وتحت تأثيرات السياسة يجري أولاً انتقاء القضاة من قبل مجالس مستقلة، ثمُ يجري تعيينهم مؤقتاً لمدة سنة، ثم يطرح على المواطنين تعيينهم أو رفضه، أي جمع النظامين في مقترح واحد.

أمام أنظمة ما بعد الثورات وشباب الثورات تجارب غنية عالمية أخرى كثيرة. لكن المهم أن لا يضحي قط باستقلالية القضاء، إذ بدونه لن تحمي الفرد المواطن أو مؤسسات المجتمع، لا القوانين ولا الدساتير المليئة بالكلمات التي لا تجد من يحيلها إلى واقع.

في رسالته إلى أمراء الأجناد كتب الإمام على بن ابي طالب عليه السُلام: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحقَ فاشتروه» ( أي شروه بالرشوة). من أجل ألا يضطرَ الناس لشراء الحق مطلوب إقامة العدل، وإقامة العدل لا يتم إلا من خلال جهاز القضاء، وهذا بدوره لا يستطيع أن ينجز إلا إذا كان مستقلاً فاعلاً بارادة المواطنين. لتتوجة الثورات لبناء محاكم الشعوب.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 3646 - الخميس 30 أغسطس 2012م الموافق 12 شوال 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 3:03 م

      الشعر بلا شعاعر ولا مشاعر

      ليس من المنسيات ولا من الخفيات، أن الانسان عجول وضعيف. فسيطرته تحتاج الى مسطرة ومنظم وحاكم وعامل لقضاء حاجته. لكنها لا تبدو المشكلة في الحاجة بل في أم و أب لاختراع السيطرة رغم علمه أنه ليس المسيطر.
      فمن فكر واخترع السلطة بلا قانون يحكمها وينظمها شعرا ونصا لا بدديل له؟

    • زائر 10 | 2:46 م

      من المسائل الشائكة بلا شوك

      ليس للحاكم سلطة ولا للشعوب سلطات الا سلطة القانون.
      إعملوا وليس تأمروا كانت رسائله (ع) لعماله الذين اختيروا من بين الناس.
      فالقضاء ليس للشعب ولا للقاضي، فالقاضي عامل للقانون وليس موظف عند الشعب متى ما كان الحاكم للناس قانون غير مبهم وليس برغبة وانما ثابت ومبين للحق والباطل.
      فهل يمكن لانسان أن يحل محل القانون؟

    • زائر 9 | 4:17 ص

      اولا النظر في القوانين التي تكرّس الوضع الفاسد

      الانظمة تستغل كل ما اوتيت من قوة لتكريس وضعها ولتثبيت بقائها في ظل هذه الاجواء.
      هذا بدلا من محاولة اصلاح الذات والقليل بل من النادر جدا ان يصلح نظام نفسه او ينظر الى اخطائه ويتعلم منها بل ما نراه هو الاصرار الدائم على بقاء الحال بل التنظير بأن هذا الوضع هو الافضل على الاطلاق بل ويدفعوا بالبعض الى التغني بمثل هذه الاوضاع.

    • زائر 8 | 3:46 ص

      دكتور راح اصارحك بشيء ولا تزعل

      انت يادكتور العزيز فهمك يختلف عنا لباقين, انت تفكر الى المدى البعيد وغيرك يفكر بالامس واليوم وهنا تكمن المشكله ان عقليتكم يادكتور لايستوعبها الباقي خاصتا من عاش وتربى على ....يكره ان يخرج من بوتقة ....فالحرية بالنسبة له ,......
      شكرا الى هذا القلم النير اللذي دوما نفتخر فيه .

    • زائر 7 | 2:23 ص

      الديقراطية الغائبه

      شكرا يا دكتور على هذا الفكر الراقي ولكن للاسف الشديد ان الفكرتين المذكورتين نفتقدهما ولو وجدت لصار حالنا افضل

    • زائر 6 | 2:04 ص

      كلام من ذهب

      شكرا دكتور على ماسطرت يداك نفتخر بك لانك منا

    • زائر 2 | 12:15 ص

      دكتورنا العزيز علي فخرو

      تحولت .....لمحاكمة الموظفين والرياضيين ناهيك عن السب والشتم والتخوين وكأنها عادة محاكم التفتيش سيئة الصيت .

    • زائر 1 | 11:34 م

      أحسنت يا دكتور .... شهم ونزيه ومفكر ذو رأي وعقل حصيف...

      مقتبس من الموضوع : في رسالته إلى أمراء الأجناد كتب الإمام على بن ابي طالب عليه السُلام: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحقَ فاشتروه» ( أي شروه بالرشوة). من أجل ألا يضطرَ الناس لشراء الحق مطلوب إقامة العدل، وإقامة العدل لا يتم إلا من خلال جهاز القضاء، وهذا بدوره لا يستطيع أن ينجز إلا إذا كان مستقلاً فاعلاً بارادة المواطنين. لتتوجة الثورات لبناء محاكم الشعوب.

      فلو أخدت الحكومات ـ بما ورد في عهده لمالك الأشتر النخعي .. لــمّــا و جعله واليا على مصر ... لـزمت بمأمون من العثرات.

اقرأ ايضاً