العدد 3869 - الأربعاء 10 أبريل 2013م الموافق 29 جمادى الأولى 1434هـ

الوهْم الذي يقودنا إلى التهْلكة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

هنالك من يعوّل على الوهم، ويجعله خريطة طريق للتعامل مع الواقع من حوله. مأساة وغيبوبة اختيارية أن ينحاز أحدهم إلى الوهم باعتباره رسول هدى إلى لا شيء! كل هذا الخلل من حولنا اليوم، كل هذا الشذوذ أيضاً، وكل هذا التورّم في الذوات والسياسات والأخلاق والاجتماع والاقتصاد ليس في معزل عن الوهم. هو لصيقٌ، متاخم، مرتبطٌ به في شكل أو آخر.

لا يمكن لأحد أن يقنع أحداً أن هذا الهمود الممتد من الماء إلى الماء نتاج سياسات واقعية ووعي منتبه. لا يمكن لأحد أن يقنع حتى الأشياء أن موازنات الرعب التي ترصد لها المليارات يمكن أن تحقق وهم طمأنينة لمن رصدوا الموازنات تلك. لا يمكن لأحد أن يقتنع ولو مدفوع الأجر للاقتناع بأن ما يحدث في هذه الأوطان له علاقة بعلم السياسة أو علم المساحيق في التردّي والانحطاط والتراجع والتقهقر والانهزام والانبطاح و»الانشكاح».

وهم يُعْمَل به باعتباره هندسة ومخططاً. هدى ما بعده هدى. في الوهم يبرز المنافق والدجّال والمرابي والقَوَّاد والانتهازي، علامات للوجاهة وواجهات مسوّقة لذلك الوهم. من ورائهم جيش لا يُحصى عدده من المريدين الذين أتلفت أدمغتهم في جلسات تصيير الإرادة والخيار. جلسات تعميق الوهم وتعميمه وتسويقه.

في الإحصاءات الرسمية العربية: منسوب المياه في البحر وهم، نشرة الأحوال الجوية وهم، معدلات الإجهاض وهم، عدد السكّان الأصليين وهم، عدد الذين يُشحنون في بواخر وناقلات للاستيطان وهم، عدد المصابين بالسكر والسرطان والسعال الديكي والإنفلونزا والطاعون والسل وشلل الأطفال والفالج والبلهارسيا والشذوذ الجنسي والتوحّد وانفصام الشخصية وجنون العظمة وجنون الانحطاط وكل أنواع الجنون، ونسب المشاركين في الانتخابات ونسب التصويت ونسب الشفافية ونسب التزوير ونسب المنسجمين مع الخلل وهم في وهم في وهم.

كيف يمكن لمن يمسكون بقياد الحياة ومصائر الناس أن يدلّوهم على ما يشير إلى الصحو والانتباه والتحفز في ظل تعميم حال من الوهم يطول كل شيء؟ كيف لوهم أن يصنع حياة؟ ثم إن حياة من دون تفرّد وعبقرية لا معنى لها. هل يصنع الوهم حياة كي يصنع تفرّداً وعبقرية؟

سؤال؛ أو هو تساؤل في مهبّ الريح، لا يتوخى إجابة بقدر توخيه استفزاز هذه الحال من الشياع المفيد للاطمئنان للوهم في بعده الرسمي العربي ولم ينجُ منه الذين انحازوا إلى عبوديتهم والاستسلام إلى وهمهم.

هل الذين يصنعون الوهم ويُكرّسونه يصلّون له؟ وإلى أي قبلة؟ هل هو بمثابة الحشيش الذي يروّجه ويسوقه الذي لا يتعاطاه؟ تسويق مثل ذلك الحشيش أو المخدّر بحد ذاته إيمان واعتناق للوهم وإن لم يتعاطه أولئك.

تتفرّع من ذلك الوهم أوهام من الباطن، تماماً كما هو الحال مع عالم المقاولات والتعهيد. حائط موصد لا منفذ يؤدي إليه.

في الوهم أيضاً تلك السيطرة على القناعة بالانتصار. الانتصار على الفراغ ربما؛ أو الانتصار على لا أحد. المهم أن تقنع نفسك بأنك انتصرت، ولا يهم بعد ذلك كيف ومتى حدث ذلك. المهم أن تقنع نفسك بحدوث ذلك. أن تنسجم وتكون جزءاً من ذلك الوهم؛ بحيث يصعب التفريق بينكما.

وثمة وهم اليوم تتبنّاه دول ومؤسسات. الدول الفاشلة وإن تجمّلت بمشروعات أفقية أو عمودية ظاهراً، تظل فارغة ومعرّاة وقبيحة داخلياً. الأبراج والأنفاق والجسور وخطوط المترو والحدائق، كل ذلك لا يخفي تصحّراً وفراغاً ووهماً بالإنجاز، طالما ظل الإنسان دون الهامش، وطالما ظل الإنسان خارج إطار وسياسات الإعمار، مغيّباً عنها ومُبعداً عن أدنى تفاصيلها. تلك في حقيقتها دول وهم، في محاولة منها لمجاراة السطح والظاهر مما أنجزته دول وأمم باستثمارها في الإنسان تعليماً وصحة وكرامة وقطب رحى في كل ذرة إنجاز أو عملاق أثر.

أخطر أنواع الوهم هو وهم الدولة الفاشلة التي تظل تعتقد أن العالم في سباق مستميت للحاق بها! تخيّلْ وضع وواقع مواطني ورعايا ذلك البلاء من الدول. لاشك أنه وضع مزرٍ ولا يدل في وجه من وجوهه على آدمية مصونة، وكرامة معتبرة وقيمة هي على رأس الأولويات.

دولٌ كتلك تحترف الثرثرة عبر إعلام مخصية إرادته وخياراته، إلا ما يُملى عليه بدءاً بالبسملة إذا وجدت وأحياناً من لوازم البيانات التي لا تنتهي، وهي في حقيقتها باسم الذي أملى وقرّر وشاء، وإن لم تشأ الأمة، كل الأمة. المهم في الأمر مشيئة المسيّر لعجلة الوهم التي تظل مُراوحة مكانها ولو كانت عجلة!

لم تصل إلى واقع أن تكون دولاً فاشلة وراعية للوهم إلا بتحكّم الخلل في كل مفصل من مفاصل حياة الإنسان الذي وجد نفسه تحت نيْر طغيانها وتجاوزها. لم تنل صفة دول الوهم وصفة دول فاشلة إلا لأن الإنسان يُراد له أن يكون ترْساً وزيتاً لحركة وضجيج عجلتها. ترْس يتم استنزافه وامتصاصه والدفع به إلى التآكل ليحل محله ترْس آخر، وهكذا دواليك.

مثل تلك الدول الفاشلة باعتناقها الوهم هي التي تعمّم الوهْم؛ أو تتوهّم أيضاً أنها تستطيع تعميمه على كل من تعتقد أنها متحدثة باسمه وممثلة له. مثل تلك الدول هي التي تجعل الذهاب إلى التهلكة أمراً اعتيادياً، وخصوصاً لأولئك الذين تم تجريدهم من أبسط الحقوق والقدرة على مواجهة ملهاة بهذا الحجم من السواد والرماد؛ لكن من قال إن الوهم ذاك يمكن أن ينتصر على إرادة الإنسان الحرّ الذي مهما همد يطلّ فعله بما يذهل الخلق من حوله.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3869 - الأربعاء 10 أبريل 2013م الموافق 29 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً