العدد 4015 - الثلثاء 03 سبتمبر 2013م الموافق 27 شوال 1434هـ

زمن «التائهون»

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

يظن البعض أو ربما يتيقن أنه من اليسير تجيير المبادئ والقيم الإنسانية وجعلها أداةً طيّعةً في خدمة القوة بمفهومها التسلطي والاستبدادي في أي مجتمع من المجتمعات، بيد إن لهذا الاستخفاف بعملية التجيير عواقب وخيمة لا يقتصر تأثيرها على طرف دون الآخر، تماماً كما تكشفه رواية «التائهون» لأمين معلوف التي يستهل متنها بعبارة للكاتبة الفرنسية «سيمون فايل» مفادها:

- «كل ما تمسّه القوة ينحطّ قدره أياً كان التماس... فاللطخة هي نفسها سواءً اعتدى المرء أم تعرَّض للاعتداء».

وبمقاربة ذلك بواقع المجتمع ومساحة الخيارات الماثلة أمامنا بضيقها أو اتساعها، يفيدنا معلوف في كتابه «اختلال العالم»، بأن «المركب الذي نحن على متنه بات هائماً على وجهه، بلا طريق، ولا مقصد، ولا رؤية، ولا بوصلة، في بحر هائج، وأنه لابد من صحوة ومن حالة طوارئ تفادياً للغرق. فالزمن ليس حليفنا، وإنما هو القاضي الذي يحاكمنا، نحن منذ الآن محكومون مع وقف التنفيذ». إذن ما يمس الضحية من نتائج كارثية ستنال منه القوة الطاغية المستبدة بهذا المعنى أو ذاك، الأمر الذي يجعلهما في حال اختلالي مهما جهدت القوة لفرض معادلتها ومنطقها وقانونها، إذ لا بقاء لها إلا بوجود الآخر باختلافه وتنوعه وتعدده، وعلى القوة في أي مكان استيعاب هذه الحقيقة لاسيما والوقت يمضي لغير صالح الجميع!

ثمة قلق مزمن ومتراكم نشهده في أغلب مؤلفات أمين معلوف، يختصره مجدّداً هنا عبر حكاية الراوي المهاجر «آدم» من بلاده إلى فرنسا منذ بدء الحرب الأهلية، مع ثلة المشتتين من أصدقائه أثناء دراسته الجامعية، بتنوعهم الطبقي والإثني والفكري والمهني، بمن بقى منهم وتلطخت يده بالدماء والفساد أو لم تتلطخ، أو من هاجر إلى بلدان متفرقة. في حاضر الرواية يعود «آدم» إلى وطنه الغريق في مرجل الهويات الملتبسة، حين يعلم باحتضار صديقه القديم «مراد» من فضل البقاء على الهجرة، بيد إنه يموت قبل وصوله بساعات، يستعيد ذكرياته ويقرر المكوث بعض الوقت ظناً منه «أنه سينقذ بعض أطلال الماضي الشخصي وماضي أهله»، متوصلاً إلى أن «الذي يسعى لتأخير الغرق، يجازف بتعجيله».

في رحلة شيقة تمتد عبر ستة عشر يوماً تتشكل عبرها فصول الرواية، يعيد فيها «آدم» اكتشاف دافعه للبعد عن وطنه الأم، بل وعدم قدرته على الانسلاخ عنه كهوية متأصلة بكل ما تتمثله تلك الهوية من خيبات ومرارة، حتى بعد تجذّر الإنسان الكوني المتحرّر في أعماقه إذ يقول: «كفانا جهلاً وتجاهلاً وابتعاداً عن الأصول، ابتعاداً عن الانتماء للوطن الحلم»، والسؤال: عن أيّ وطن ومواطنة؟

فالمواطنة ليست منحةً يُتصدق بها، ولا بطاقة تعريفية، كما لا يمكن فهمها حسب جون كنيدي: «لا تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك، بل اسأل نفسك ماذا يمكن أن تفعله لوطنك». «من السهل قول ذلك حين يكون المرء مليارديراً، وقد انتخب للتو يقول معلوف، أما حين لا تستطيع في بلدك إيجاد وظيفة، ولا تتلقّى الرعاية الصحية، ولا إيجاد المسكن، ولا التعليم ولا الانتخاب بحرية، ولا التعبير عن الرأي، بل ولا حتى السير في الشوارع على هواك، فما قيمة ذلك القول» لما لا والوطن عنده ذاك الذي يتيح لي العيش فيه مرفوع الرأس، أعطيه كلّ ما لديّ، وأضحّي من أجله. والوطن الذي أعيش فيه مطأطأ الرأس لا أعطيه شيئاً»، هكذا يرد معلوف على مفهوم المواطنة الزائفة الرائجة خاوية المضمون تلك التي يتغنى بها الزائفون في شعاراتهم وخطاباتهم.

حقاً، ما قيمة المواطنة حين تهدر كرامة الإنسان في وطنه، ويقمع ويمارس عليه تمييز مذهبي، ويحرم من فرص التعليم والعمل حيث أفضلية الغريب عليه وضياع المستقبل؟

يسرد «آدم» في مذكراته التي تتناسل تفاصيلها في أحداث الحاضر والماضي، المهجر والاغتراب، الهوية والدين، والانتماء وصراع الحضارات، فمن خلال حكايات أصدقائه، يركز نبشه حول المسجى «مراد» في تابوته بهدوء على ملاءات، ينحني أمام الجثمان، مغمض العينين، بذهن خواء تتدفق تساؤلاته حول إشكالية خيانة الأفكار والتلاعب بالمبادئ والاستهتار بالقيم الإنسانية وصولاً إلى مرحلة الانحطاط اللاقيمي، حين تحيل القوة البعض كي يكون شاهد زورٍ على ممارسات القتل والانتقام والكراهية، استناداً إلى تعصّبٍ ما، هويةً كانت أو مذهباً أو قبيلة أو طائفة. يكتب معلوف:

- «صديقي؟ أي صديق؟ لا أحد منا يكلّم الآخر منذ عشرين عاماً! لاشك عندي ولو للحظة واحدة بأن سلوكه القديم أثناء الحرب يمثل خيانة للقيم المشتركة التي كنا نؤمن بها، وأرجو ألا يسعى لإنكار ذلك. ولكن ألم يخن بسبب ولائه؟ فبدافع التعلق بالوطن، رفض الرحيل، ولأنه قرر البقاء اضطر لإيجاد بعض التسويات، والقبول ببعض التنازلات التي ستقوده إلى ارتكاب المحظور. حارب كالوحش الضاري... يتراءى لي «مراد» الآن مثل شخصية ثانوية وخائبة، مثيرة للشفقة، تائهة وسط مأساة تتجاوزها. لست مستعداً بعد لأن أسامحه على أخطائه، غير أني ألوم بالقدر نفسه سائر العالم، وكذلك ألوم نفسي... لست على يقين من وجوب الصفح عن جميع المحتضرين حين يقترب أجلهم. أن نصفِّر العدادات، أن يجد القتلة والضحايا، والطغاة والمقهورون، أنفسهم أبرياء بالقدر نفسه... ليس عندي في أي حال، فالإفلات من العقاب، لا يقل انحرافاً عن الظلم؛ إنهما وجهان لعملة واحدة».

إذن هي الخطايا بتفاصيل السلوكيات الصغيرة المستترة والكبيرة المفضوحة. هي العبثية الآثمة بتشظياتها وما أفرزته من هزائم للذات انعكست على تكوين النفوس، وهي التي تفسر لنا «اختلال العالم» الذي تتصاعد مظاهره في أحداث الراوية عبر ما يفسحه المؤلف لشخصياته للتعبير عن آرائهم وتجاربهم ومواقفهم، يعبّرون عن مأزق الانتماء للوطن، حيث يتبادلون في شبابهم حوارات بيزنطية بعيدة عن الواقع، راودتهم أحلام سرعان ما تهاوت بسبب الحرب التي كشفت عن وهم عميق بأنهم يعيشون في مجتمع متآلف متحرّر من التعصب الديني والطائفي، فها هو نعيم اليهودي الجنسية من ولد وعاش في لبنان ثم هاجر إلى البرازيل، وألبير المسيحي الذي يختطف أثناء الحرب وينقذه مراد فيهاجر لأميركا ويعمل بمعهد تابع للبنتاغون، يخفي «مثليته» ويجد ذاته في المهجر، وبلال المسلم الحالم بكتابة رواية كما يفعل الأدباء المقاتلون مثل «همنغواي»، أحبته سميراميس المسيحية وصدمت بمقتله بقذيفة عبثية، أما رامز المهندس المسلم فيصبح مليونيراً ويتحوّل شريكه وصديقه الحميم رمزي المسيحي إلى راهب اسمه «باسيل».

لا شك أن المؤلف يطرح من خلالهم الأفكار والآراء التي تتقاذف مجتمعاتنا، يتطرق للمحرّم منها كاشفاً عن البعد والقرب بين ثقافة الشرق والغرب، لما لا وهو المتوجس الذي يشهد بأن العالم العربي والإسلامي يغوص أكثر فأكثر في «بئر» تاريخية يبدو فيها عاجزاً عن الصعود؛ حاقداً على الأرض كلها – الغربيين، الروس، الصينيين، الهنود، اليهود... إلخ- وعلى ذاته بالدرجة الأولى، مستدركاً بأن جميع شعوب الأرض أيضاً في مهب العاصفة بشكل أو بآخر... فنحن على متن زورق هزيل، سائرين إلى الغرق معاً.

ومع ذلك لا نكفّ عن تبادل الشتائم والمشاحنة غير آبهين لتعاظم أمواج البحر، ولعلنا حتى قادرين على الترحيب بالموجة القاتلة إذا ما ابتلعت أعداءنا أولاً إبان صعودها نحونا».

هل ينتهي أمرنا بهذه المأسوية المتخيلة؟ بالطبع لا.

يجيب معلوف: «لا يجوز التبشير باليأس، بل بالعجلة والقول بوجود تأخر، لكن ليس فوات أوان!

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4015 - الثلثاء 03 سبتمبر 2013م الموافق 27 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:39 ص

      وخيرجليس في الأنام كتاب تقرأه وتحسن الى غيرك

      كثيرة هي المفاهيم بينما معانيها قد تختلف من إنسان إلى آخر حسب أدبه وأخلاقه. فيقال أن الإحترام رأس أو رئيس الأخلاق بينما من الأدب إحترام النفس لكن النفس أمارة بالسوء. هنا لما يقال يا غريب كن أديب ولا يقال يا قريب كن أديب؟ يعني يمكن واحد يكون أديب مثل كتاب روايات أو قصص لإيصال فكره تؤدب الناس من خلاله أو بمساعدة وسيلة القراءه متى ما قرءها الناس. لكن إذا كان الناس ما تحب أن تقرءا أو ليس لديها من الوقت فراغ تقراء من أين يأتي الأدب؟ أو زيادة مشاهدة التلفاز أو مطالعة الكتب؟

    • زائر 1 | 3:08 ص

      جار ومجرور وجارح ومجروح

      يقال لا حسداً ولا بغضاً لكن يمكن يؤذي الآخرين بكلمة. فمن الناس أو بعضها قد تكون رافضه للتغير وترك عادات وتقليد على بعضهم البعض وحسد وحقد ..– يعني عدم نظافة سريره داخل بعض البشر لكن بدون إحساس ولا شعور أنه قد يكون مبتلى أو كما يسميه البعض فيه مرض نفس. لما لا يسأل الإنسان نفسه؟ أو يحاسب نفسه قبل أن يحاسب غيره؟ لما بعض الناس يرى عيوب آخرين وينسى أنه معيوب أو كله عيوب – عورات يعني. أليس اللسان من الجوارح والنظر من الجوارح كما السمع والقلب...

اقرأ ايضاً