العدد 4020 - الأحد 08 سبتمبر 2013م الموافق 03 ذي القعدة 1434هـ

القلوب البصْمة... بعضها من جِنان وبعضها من مزابل!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

القلوب معادن أيضاً. تتعرَّض إلى عوامل التعرية. عوامل تعريتها هي الكراهية والحسد واستمراء التجاوز والانتهاك والسلب والنهب والقتل والتمييز والاستهداف.

القلوب معادن، منها البخْس، ومنها الذي لا يُقدّر بثمن. أوعية هي، منها تحكم على اتزان هنا؛ أو اضطراب هناك. عبْرها تستشفّ إمكانات التواؤم والاندماج والتعايش مع محيط؛ أو تلتقط منذ الخفْقة الأولى استحالة كل ذلك. إنها القلوب: المفاتيح والأبواب في علاقتنا بالمحيط من حولنا، وعلاقتنا مع العالم عموماً.

دائماً ما يتردّد: ما يريح العينَ يريح القلب. الصحيح، أن ما يريح القلبَ يريح العين. العين مباشرة في تلقّيها. القلب ليس كذلك. للقلب ما يشبه «الفلاتر» التي تمحّص وتختار. قد تنفذ من أحدها؛ لكن ليس من السهولة أن تنفذ إليها جميعاً بالسهولة والمباشرة التي تتأتّى للعين.

ما يريح القلب ستتواءم معه العين، وفي التواؤم ارتياح. العين في مباشرتها خادعة ومُورّطة أحياناً. ماذا عن الذين لا يُبصرون؟ سيُقال الأذن هذه المرة. الأذن أكثر مباشرة بالنسبة إلى الذين حُرموا نعمة البصر. هي عينهم في كثير من الأحيان. لكن لا يمكن التعويل على العين والأذن دائماً. التعويل على القلب. ومثل ذلك التعويل وإن ضرب في مقتل عبر طعْن وخديعة؛ يكفي صاحبه أنه ترك للتمحيص عبر «الفلاتر» تلك أن يأخذ دوره ويحدّد وجْهته. ولن يسْلم الأمر من خديعة مع القلب كي لا نعوّل عليه في إطلاق مجاني.

وما يريح القلبَ لا يريح العين فحسب. يريح كل ما يرتبط بحواس المرْء باعتبارها أدوات اتصال مع محيطه وما بعد محيطه أيضاً. رفاهية القلب وخلوّه من الأوبئة والأمراض السارية التي نشهد يتيحُ تحصيناً للبيئة وبشر البيئة الذين يتعاملون مع وينسجمون ويندمجون ويتعايشون مع من يلقي لهم تحية القلب قبل تحية اللسان والعين.

وفي القلوب قدرة تحمّل مع من نُحب؛ لا من يترصّد ويستهدف ولا ينتظر زلّة كي يطعن ويتآمر ويورد موارد الهلاك. قدرة تحمّل من هو أهل للتحمّل، قريباً كان أو بعيداً؛ ما دام بقلب يمرُّ بأطوار صحْو وغياب، ولكنه يعود إلى ما جُبِل عليه: فطرته التي بها وعليها وعى فاتصل واتفق واختلف وشذّ وانسجم ورضي وأعرض وتقبّل وأنكر، وسُرَّ وحَزن، في أطوار لا تستلبه وتختطفه من حيث تأسّس فطرة وجِبلّة.

والأثر... البصْمة التي لا تبْلى ولا تزول من العالم وكل عالم؛ هي القلوب التي نُذرتْ للخير والحب والإعمار والإغاثة؛ تلك الممتلئة بالمروءة والنخوة والشرف وعزّ المواقف. القلوب التي تبني ما يهدّه آخرون، وتقيل وتقبل العثرات. القلوب التي يتذكّر صنيعَها الأعداءُ قبل الأصدقاء، والبعيدُ قبل القريب، والمختلفُ قبل المؤتلف. بهذا المعنى، يكون قلب كلٍّ منا بصمتَه في هذا العالم.

وكما أن القلوب معادن؛ تتكشّف عبْرها صور ومواقف يمكن أن يتجلّى أثرها وشواهدها الإنسان بتعاطيه مع البشر من حوله. فثمة قلوبٌ هي بمثابة جِنان؛ بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ وثمة قلوب هي بمثابة مزابل؛ وبكل ما تحمله الكلمة من معنى هذه المرة أيضاً.

القلوب الجنان، تلك التي تأوي وتسكن إليها وتجد فيها استقرارك وطمأنينتك وحبورك. والقلوب المزابل تلك التي لا تترك لك مستقراً، وتسلب حقك في أبسط الأمور والأشياء: أن تكون لصْق أمكنة لا تؤذيك في حواسّك، ولا تؤذيك في حقك في الاستقرار.

وليست مبالغةً في شيء القول: ‏أمواتٌ أولئك الذين تعاني قلوبهم النفْيَ. نفي من لا يلتقي معهم في أدنى الأمور وأبسطها؛ عدا الحديث عن مركّبها ومراكزها. الاستئثار بالاعتقاد، وأنك الحق وحده وما عداك لا شيء من حق وحظ له. أن تختزل الأفكار في فكرتك، والأصوات في صوتك، والوجود في وجودك، وليذهب العالم كل العالم بعدها إلى الجحيم، هو ذروة نفي ذاتي تمارسه على نفسك قبل أن تمارسه على الآخرين.

كأنك هبطت من جنّتك التي «تتوهّم» لتقيم جحيماً على الأرض سيطولك قبل أن يطول الآخرين.

لا قلوب تتشابه. تماماً كالبصْمة؛ سواءً تلك التي تجسّد في نقائها وطِيبها ورفاهيتها الجنانَ؛ أو تلك التي على النقيض من ذلك بتجسيدها المزابل. لكن تظل بصمات بما لها وما عليها. بما تمنحه من طمأنينة، وبما تبعثه من قلق وأذى.

ما آل إليه العالم اليوم من اضطراب وقلاقل واستهداف لطمأنينة بشره، وإدخالهم في أكثر من سعير، وحشْرهم في أكثر من جحيم أرضي يتم تدشينه بالسياسات التي هي من بنات أفكار العُقد والمزاج المَرَضيّ، كل ذلك يكشف حرص بشر على أن يكونوا شواهد على مزابل فيما يجترحون ويرتكبون، وعلى الضفة الأخرى، يمكن اكتشاف حرص وثبات بشر أيضاً على أن يكونوا أدلاء وشواهد على الجنان.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4020 - الأحد 08 سبتمبر 2013م الموافق 03 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 5:14 ص

      إبداع

      كلما أتئمل في الكلمات وأمعن في المعاني اراك ترابقلبك وعقلك الانسان يتوغل بصدق في هدا العالم المجنون بنسه إلاإنسان بلفعل .....!!!

اقرأ ايضاً