العدد 4037 - الأربعاء 25 سبتمبر 2013م الموافق 20 ذي القعدة 1434هـ

ما أقصر أيامنا

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل ألف عام من الآن، لم يكن «اليوم» أطول من يومنا، ولا الأعوام كانت أطول أو أقصر، بل هي ذاتها وبمقدارها.

نعم، قد نختلف في تعريف «اليوم»، فقالت العرب إنه من طلوع الشمس إِلى غروبها، وبين أن نُحيِّنه بالمقادير الوقتية الحديثة، المعمول بها في هذا الزمان كبُعد فيزيائي لأصل معنى الزمن، لكنها في المجمل هي ذاتها لم تتغيَّر.

العَجيب في الأمر، ليس في ذلك التساوي في أيام الحاضر والماضي، فتلك طبيعة الأشياء، لكن العَجَب هو في اختلاف حركة البشر داخل يومهم في الزمنيْن.

فبالنظر إلى ظروف «اليوم» في الأيام الغابرة، سنجد أن البشر هم مادة حقيقية ومباشرة في حركة يومهم دون إضافات لافتة.

بمعنى، أن الإنسان في تلك الأيام السحيقة، كان يعتمد اعتماداً كبيراً على ذاته في تسيير حركته ومعاشه وتفكيره، ما خلا بعض الأشياء البسيطة المساندة له، والتي كان قد توصَّل إليها شيئاً فشيئاً، سواء في اكتشافه للنار أو الحديد أو الأمراض أو غيرها من الأشياء.

وعندما كان الإنسان كذلك، فهو يعني أنه كان يعمل أكثر، ويمشي أكثر، ويمرض أكثر، ويُجازف أكثر، وفي نفس الوقت، كان عمره أقل، ومتعته في يومه أقل، ومكوثه في مكانه أقل، والسبب في ذلك مرتبط باعتماده شبه الكامل على لحمه الحي، وعلى وظائفه المباشرة لجسمه وعقله.

كانت الإنسان القديم، يعمل كثيراً وبدون انقطاع لتوفير الطعام، خصوصاً وأن يومه الفعلي كان يبدأ من الشروق وحتى الغروب، نظراً لغياب النور المُدعِّم لنشاطه البصري، الأمر الذي يجعل من مخاطر البيئة المحيطة به حقيقية.

وكان يُكابد من أجل درء الأخطار عن نفسه وعائلته نتيجة الجوع والعطش، مع غياب كامل لثقافة التجريب المسبق، والتي قد توفر له صيغة أفصل للحياة، ولقيمة طعامه وصحته وغيرها من الأمور.

كان الإنسان القديم يمشي على قدميه كثيراً، فهو لم يكن يمتلك الحافلة، ولا الطائرة ولا القطار، ما خلا الدواب، وهي في كل الأحوال لا تستطيع السير والتحمُّل كما تتحمَّل وسائل النقل الحديثة، وبالتالي، هو مضطر لمساعدة نفسه في قطع الطرقات والبراري.

وكان الإنسان القديم، (وبسبب قلة حيلته في الطبابة) كثير المرض، وكما أشارت غيراد ليرنر إلى أن النساء في الأزمنة الغابرة كنِّ «يحتَجنَ أن يحملن أكثر مما يُنجبن»، والسبب أن بقاء أكثر من وَلَدَيْن على قيد الحياة في العصور القديمة كان صعباً بسبب الظروف الصحية المتخلفة.

ولو رجعنا إلى الأوبئة وجائحات الأمراض التي ضربت العالم، كالطاعون وغيره من الأمراض، سنُصاب بالذهول نتيجة الخسائر البشرية الباهضة.

اليوم لا تبدو الأمور كذلك، فنحن الآن نعمل أقل، ونمشي أقل، ونمرض أقل، ونُجازف أقل، ونستمتع أكثر، ونستوطن في مضاربنا أكثر، والسبب كله مرتبط بعدم اعتمادنا على سواعدنا المباشرة، بل على العوامل المساعدة، والمتمثلة بمخرجات التكنولوجيا من آلات وعلى تقدم العلوم في كل مجالاتها.

يستطيع المرء اليوم، أن يفطر صباحاً في بلده، ويأكل خبز الظهيرة في بلد آخر، ثم وجبة المساء في بلد ثالث، دون يمشي على رجليه مئتي متر حتى. هو يستطيع أن يُحرِّك آلات مصنع ضخم، عبر أجهزة تحكم، وشاشة كمبيوتر دون جهد عضلي، وفي نفس الوقت يتمتع بنظام حماية مهنية متقدمة، وبصحة جيدة أيضاً.

هنا تبدو المفارقة عجيبة فعلاً؛ فكلما توافرت لدينا وسائل المساعدة، من اتصالات ونقل، وعلوم وصحة جيدة واستقرار مكاني، أصبح يومنا أقصر! فلم يعد اختصار المسافات المكانية، من أربعة أشهر إلى خمس ساعات، وبجهد أقل، أن يُغيِّر من سِعَة أيامنا!

كثير من الناس اليوم، يجدون أن ساعات يومهم غير كافية لمشاغلهم، مع كل هذه الاختصارات، في الزمن المقطوع، وفي الوصول إلى نقاط القصد. فهل تغيَّر اليوم كوحدة زمنية، أم أن الأعمال تمدَّدت وتفرَّعت، وبات البشر غير قادرين على مجارات متطلباتها؟

باعتقادي، أن الموضوع مرتبطٌ ارتباطاً رئيساً بطريقة نظرتنا للأشياء، وبالتحديد، عبر مفهوم «الوَفْرَة». فعندما كان الإنسان يعيش على حدِّ الكفاف، ويسعى جاهداً للحصول على الطعام والماء، كان قادراً على إدراك ما يعنيه ذلك الطعام والماء بالنسبة إليه.

وعندما كان يعمل بشتى الطرق، وبدون وسائل دعم صناعية، ولا حماية مهنية، فإنه كان يعرف ماذا يعني له العمل، الذي سيجعله قادراً على الاستمرارية في هذه الحياة. كان كل شيء بالنسبة إليه تحدياً ومقابلاً له، وبالتالي كان حريصاً على عَصْر ما يتبقى من كل شيء، كي يتيقن من استفادته له.

اليوم، لم يعد ذلك الأمر موجوداً. النُّدرَة لم تعد تحكم حياتنا، بل الوَفْرَة باتت هي المتسيِّدة. وبالمناسبة، فإن الوَفْرَة (كمفهوم) لا يقتصر أمرها على المال فقط، بل يسري على كلِّ شيء. فالوقت المديد الذي يُنفَق في سبيل سَفَر، وبات اليوم سويعات، هو وَفْرَة وقت في فائضه أيضاً، وكذلك الحال بالنسبة للجهد العضلي وبقية الأمور المتباينة ما بين حاضرنا وغابرنا.

ومثلما يُسيء الإنسان لأمواله عندما تتوافر لديه، فيرميها يميناً وشمالاً دون حساب، فكذلك الحال بالنسبة للوقت. فكلما زادت ساعات يومنا، أصبحنا فاقدين لأن نحس بقيمة هذه الساعات وتلك الأيام، الذي كان الإنسان القديم فيه، يُكابد من أجل أن يُنجز ما يقيه من الهلاك والموت في ساعاتِ نوره فقط، فنقوم بالعبث فيها بغير مسئولية.

كثيرون يعتقدون أن يومهم مليء ومكنوز بالمشاغل، لكنهم غير مُدركين، أنه مليء بنوافل الأعمال وبهوامشها. فلم يعد التحدي للإنسان هو إما أن يعمل وإلاَّ سيموت، ولا عليه أن يمشي وإلاَّ لن يجد مقصده. لقد أصبح كل شيء أمامنا، وبالتالي، لم نعد نحس لا بالعمل ولا بالمشي، ولا بالصحة، ولا بالوقت. هذه هي مشكلتنا الحقيقية، التي تتسرَّب منها إخفاقاتنا، والتي من أهمها الإخفاق في الوعي.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4037 - الأربعاء 25 سبتمبر 2013م الموافق 20 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 4:52 ص

      أعجبني

      مقال رائع بصراحة أهنيك على هذا الأسلوب السلس والجميل وبانتظار المقالات القادمة

    • زائر 4 | 2:42 ص

      مقال جميل وخفيف ونهايته تذكرنا اننا امة استهلاكية لا نفكر ولا نبدع بل همنا الاستهلاك

      يقول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ كما ان هناك العديد من الحكم والأقوال المأثورة حول أهمية الوقت كمقولة (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) والوقت كالذهب..الخ ولكن من يسمع ويتعظ؟ حتي المشاريع الاقتصادية والبني التحتية يستغرق تنفيذها وقتا أطول لان الوقت ليس بذات الاهمية . هل هنا مشكلة انها ليست نهاية العالم!!

    • زائر 3 | 2:28 ص

      موضوع ومادته الناس لما خلقوا؟ وألهاكم التكاثر...

      مادة الكون وموضوعها سيد الكائنات – الإنسان يعني. فيقال يقلب أو يعقب الليل النهار كما الشمس والقمر في فلك يسبحون. فخلق الله الكون من أجل الإنسان لكن من الناس قد لا يقول بأن الناس سواسيه أو متساوون في الحق فيظلم غيره كما ويظلم نفسه. قد يقول البعض بأن النفس أمارة بالسوء وقد يقول آخر أن الشيطان أو الوسواس الخناس في صدور الناس وسوس له وشوش عليه تفكير بسبب إعتقاد أو ضن أو شك. فترى البعض يتخبط حتى في الصلاة المفروضة والمكتوبه كما يسميها البعض. هنا السؤال لما خُلق الإنسان إذا كان ليس ليزراع فهل للحصد؟

    • زائر 2 | 12:56 ص

      مجرد رأي

      المقال في كثير من جوانبه يحاكي نظرية الهرم لماسلو والتي تتناول احتياجات الإنسان وتطورها عبر مراحل حياته.

    • زائر 1 | 11:28 م

      حال الكثيرين من شديد الاسف

      مقال رائع فعلا ويحاكي واقع الكثير من شبابنا الذين يعيشون بلا هدف . ننتظر تحليلك استاذ محمد عن سياسة ايران الجديدة في ظل وجود روحاني في السلطة

اقرأ ايضاً