العدد 4270 - الجمعة 16 مايو 2014م الموافق 17 رجب 1435هـ

رهائن الشاشة في إعلام يقدِّم العَمى

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أسهل الوسائل اليوم لتسخيف الذائقة عموماً، والحقّ في الخيار خصوصاً، هو التسمّر أمام التلفاز، ووضع نفسك رهينة لإعلام يربّي فيك السذاجة والسخف والبلاهة وحتى الغيبوبة. لن يحدث ذلك بعيداً عن قناة عربية - إلا ما ندر- تحرص هذه المرة أيضاً على تربية الغرائز المنحرفة والسوداء فيك!

مئات ملايين الدولارات تنفق عبر آلاف ساعات البث التلفزيوني، توجّهاً واندفاعاً لإرجاع إنسان هذا الجزء من العالم إلى ما دون الذين جاورهم من مخلوقات في بيئته المتوحشة الأولى. لا عبْرة فيما يُضخ إلا في إرجاع هذا المخلوق الذي من المفترض به أن يكون نبيلاً إلى قواعد الانحطاط التي ترى فيها بعض الفضائيات العربية نموذج العَوْدة به إلى الأصل الذي ينتمي، والفضاء الذي لاشيء يدلّ عليه، انسجاماً وتآلفاً معه!

تكمن أزمة الفضائيات العربية في أنها تتبنّى خرائط طريق، فيما الذين يتولّون خطط الإسفاف والتسطيح وحتى التيه يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم لعبور شارع فرعي لا حركة فيه!

من مآسي ومصائب المرحلة التي نشهد والتي سبقت، أن الذين يدمّرون مناعتك يصرّون على أنهم حُرّاسها، وأن الذين يقدّمون لك ساعات من التهتّك والإسفاف وتغييب الوعي وتسطيحه؛ يوهمون عالمهم بأنهم يقدّمون الفضيلة والعمق والحضور في قيمته ضمن آخر نسخة مزيدة ومنقّحة، وأن الذين يقدّمون لك وصفات الانهيار هم أول من اخترع السدود في التاريخ!

ملهاة في أحط منازلها ومستوياتها. هذا التكالب على تصفية ما تبقى من انتباهة وعي إنساني وطني لا يخجل أصحابه من التلويح برايات الوطنية؛ من حفل محاط بالسرية مع تفتيش المدعوين بشكل ذاتي، إلى الاحتفاء بالجزّارين العابرين للحدود وبتسهيلات لن تتوافر للنادرين ممن اعترف الغرب بعبقريتهم تحت سمائه؛ وبمنأى عن أنفاق واقع عربي هو عدو الضوء الأول لفرط إدمانه واعتياده العمى!

إعلام، ومواد تلفزيونية تقترب من القرن مذ بدأت، من دون أن تقدّم أثراً فاعلاً ومُتحققاً ولو في حدود اللحظة، في بيئات مُستلبة ويُراد لها أن تكون كذلك؛ حتى يأذن من لن يأذنوا بتبدّل الحال؛ لأن في ذلك عصفاً بوجودهم الهش، القائم على التعمية والجمود والانعزال عن حركة التاريخ؛ عدا التأهيل لتلمّس طريق إلى المستقبل!

في بعض الفضائيات العربية اليوم، قدرة عجيبة في حرق المراحل. مراحل تعميق نكوص الفرد وتراجعه على أكثر من مستوى. قدرة عجيبة على اختزال السخافة وتقديمها باعتبارها الفعل الخارق.

تتسع الهوّة اليوم بين ما يحتاج كل منا إلى معرفته، وإلى ما يصوغ الوعي في تناميه، وبين ما تقدّمه الشاشات على اختلاف وتنوع بضاعتها، وتغلغلها وامتدادها. هوّة تعيد إنسان ووعي إنسان هذا الجزء من العالم إلى ما يشبه بيئته ومصادر وعيه الأول، في شكله البدائي؛ أو الذي لا يُكاد أن يُحسَّ بأثره، ولا اتضاح في خياراته، هذا إن كانت له خيارات أساساً!

ندخل عصر التغييب ضمن فخ يأتينا مرّة باسم الرفاهية، ومرة أخرى باسم التنوير، فلا الرفاهية تحققت بالإضافة التي يمكن أن تحققها، ولا التنوير يمكن أن نبصر به ما دون أقدامنا!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4270 - الجمعة 16 مايو 2014م الموافق 17 رجب 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 10:02 ص

      هل انتهى زمن الانسان العادي وحل محله انسان مبرمج الكترونيا؟

      اصبح الانسان في زمننا فاقدا للصراحه والمصداقيه حتى احيانا مع نفسه يدور فب ذهنه مئات الاسئله ولا يجد له جوابا لا حسم ولا حزم في مواضيع العالقه نحتاج لصبر ايوب وعمر نوح

    • زائر 2 | 9:25 ص

      شاشه وعقل مثلج

      موضوع متميز

اقرأ ايضاً