العدد 4296 - الأربعاء 11 يونيو 2014م الموافق 13 شعبان 1435هـ

بعض العزلة لا يختلف عن «أذان في خرابة»

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

يمكن القول، إن هذا العصر هو نفسه عصر «الأذان في مالطا» وأيضاً «الأذان في خرابة». لا أحد يسمع أحداً، وإن سُمع ما يقال فلا مكان للاكتراث. لا أحد يكترث بأحد. كلما «تقدّم» العالم/ الإنسان في الاكتشاف، كلما «تأخر» في علاقاته، وارتدّ في عواطفه وفطرته في تلك العلاقات ضمن الدم الواحد والعائلة الواحدة، وفي المحصلة النهائية، ضمن البيت الواحد أيضاً.

كل هذا الشحن، والتوتر، والترصد، والقلق الذي لا ينتهي سببه أن الإنسان أوهم نفسه أحياناً بأن في عزلته تحصيناً له ومنجاة. كلما اعتزل كلما حافظ على خصوصيته. والعزلة لا تعني بالضرورة أن يأوي إلى جبل يعصمه من الناس. وهو بين الناس كأنْ لا وجود للناس. وجوده هو فقط. أخطر أنواع العزلة وأشدّها مضاضة تلك التي تكون بين الناس. في ضجيج وزحام بشري؛ حيث لا أحد يرى أحداً، أو حتى مجرد الشعور بأن هناك أحداً يشاركه على أقل تقدير حيّزاً من المكان. المكان اختزالاً لهذا الكوكب من مائه إلى ترابه.

أعود إلى محمود درويش في «أثر الفراشة» كلما جاءت الكتابة في صيغة إدانة واقع يُظن أنه جمعي، ولكنه يبدأ صدوراً من الفرد الذي ينسى أنه جزء من ذلك الواقع. اتفق معه أم اختلف. في صيغة تساؤل أيضاً لا يبرز من زحام بين الناس، ولكن هناك أيضاً من وضعية هي عزلة في صورة أو أخرى. ودرويش لا يفلسف الحالات والأشياء من حوله بقدر ما يقدّمها لنا من جانبها الذي لم نره، ليس من عمى ينتابنا، بل من غفلةٍ هي في كثيرٍ من الأحيان صيغة من صيغ العمى والعزلة أيضاً. الغفلة: نأي وابتعاد، وانفصال وإن كان مؤقتاً عمّا هو قبالك أو حتى بمنأى عنك.

«أن تكون وحيداً... أن تكون قادراً على أن تكون وحيداً هو تربية ذاتيَّة. العزلة هي انتقاء نوع الأَلم، والتدرّب على تصريف أفعال القلب بحريّة العصاميّ... أَو ما يشبه خلوَّك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلَّة نجاة. تجلس، وحدك كفكرة خالية من حجة البرهان».

مثل ذلك الفهم للعزلة نادر، ويكاد لا يُرى في دنيا الناس إلا الذين خبروا الذوات، وعانوا من صدمات مركّبة. عزلة مثل تلك لا خوف على صاحبها ولا هو يحزن، إن كانت مناحة وفراراً بما تبقّى من صنيع في النفس يمكن أن يقدّمه، ونبْل يخشى صاحبه على فقدانه وتلاشيه وسط هذا الكمّ من التلوّن والجحود والنكران والوقاحة أيضاً!

هل نلقي اللوم على تقدّمٍ تم إحرازه؟ هل نلقيه على الإنسان نفسه الذي ربط أواصر العالم كي يمعن في قطع الأواصر تلك بين البشر أنفسهم في المكان الواحد والبيت الواحد؟

وهل العزلة «هي اختيار الحر» بحسب تعبير درويش نفسه؟ هل يحدث ذلك دائماً. هل للحرية قدْر في تقييم تلك العلاقات، صلة أو قطيعة؟ «لكن هذا العَبَثَ البريء لا يؤذي ولا يجدي: وماذا لو كنتُ وحدي؟ العزلة هي اختيار المُتْرَف بالممكنات... هي اختيار الحرّ».

زمن كلما امتدت وتطاولت قدرته على تقليص المسافات، واجتراح طرق ومنافذ للرفاهية، كلما أوجد أسباب ومبررات العزل والانفصال والنأي والشقّة، والشقاء أيضاً!

ليست المشكلة «في الاختيار الحرّ»، المشكلة أنه يكاد يكون منعدماً، والمشكلة أنه اختيار حر في ظاهره، ولو على حساب النتائج والمحصلات والمآلات. ولو على حساب الذين يشتركون والمجاورين له على هذا الكوكب. اختيار أن يكون الإنسان بمعزل عن الإنسان، في استدعاء للوحشة الأولى، بكل ما تحمله من عقد وأمراض وميراث من التوحّش أيضاً!

في كثير من الأحيان... ستجد بعضاً من أنواع العزلة لا يختلف كثيراً عن «أذان في خرابة».

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4296 - الأربعاء 11 يونيو 2014م الموافق 13 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً