العدد 4333 - الجمعة 18 يوليو 2014م الموافق 20 رمضان 1435هـ

عليٌّ... مشروع حق قتلته الجاهلية

رملة عبد الحميد comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

يقول المفكر والأديب المسيحي نصري سلهب مستحضراً صورة الإمام علي أمامه: «فتشت في الدنيا عن سر خلودك فلم أجد عند أهل الأرض جواباً، ألعلك من أبناء السماء أم لعل أهل الأرض ما استحقوا أن تكون عليهم أميراً، فسلخك الله من قلوبهم فأدماها، ولا تزال إلى اليوم، تتضور شوقاً إليك وحنيناً!»، فما الذي يجعل الإمام علياً (ع) يتجلى بهذه الصورة في نفوس من لا يعتقد بعقيدته، فهي استلهمت مثل هذا الإحساس من خلال ما قرأته عنه وتعايشت معه. إنه الإنسان الذي يجبرك على تبجيله وجعله مناراً لتقتدي به في إنسانيته، فهو مع الكادحين في إيمانه وصبره، وهو مع المؤمنين في الحق الذي لا تأخذه فيه لومة لائم. الإمام علي مشروع حضاري يرسم للواقع طريق الخلاص ليعيش الإنسان فيه بسلام وكرامة ومحبة.

لم يكن لمولود الكعبة إلا الحق وإثبات العدالة، هي كانت سمته، وبها عرف على مدار التاريخ فهو ينادي: «فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق». فالعدالة لديه كحد السيف، لا تعرف الاعوجاج ولا تقاس بالأفراد، تماماً كما يراه ضرار الكتاني «لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله».

عليٌّ يرفض التمييز ومحاباة فئة على أخرى، فقد كانت المساواة ديدنه إذ يقول: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». وفي هذا الصدد يشير المؤرخون إلى أن امرأةً من أهل الذمة جاءت إلى الإمام أيام خلافته وهو جالسٌ في مسجد الكوفة، وقالت إني معوزة، فأعطاها براً - وهو طحين الحنطة - ونقوداً، ثم جاءته امرأةٌ أخرى عربية مسلمة، تطلب حاجتها فأعطاها مقدار عطاء المرأة الذمية نفسه، فقامت غاضبة وقالت: يا أمير المؤمنين لقد سويت بيني وبين هذه الذمية وغير العربية، فقال: «لقد اطلعت على كتاب الله فلم أرَ فرقاً بين أبناء إسماعيل وأبناء إسحق»... و»كلكم لآدم وآدم من تراب». إنها العدالة التي لا تعرف الفرقة عنواناً، إذ كان يبسط الحب والعطف بين الجميع، ويتضح ذلك جلياً في وصيته لمالك الأشتر عندما ولاه مصر: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم والألفة لديهم». فهو يمنع التعدّي والقسوة وإشاعة الرعب بالعنف والتنكيل وبتضييق سبل العيش «ولا تكن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم».

لم يكن عليٌّ إلا إنساناً عالياً في فهمه وسلوكه، عارفاً بالذات الإنسانية، محافظاً على كرامتها، فكان يقول لسائله: «اكتب حاجتك على الأرض، فإنّي أكره أن أرى ذلَّ السؤال في وجهك». وكان اهتمامه بالأيتام والفقراء مدعاةً لأن يقول بعض أصحابه: «لوددت أنّى كنت يتيماً».

حكومة علي لم تغفل ضرورة التنمية البشرية، فالناتج الاقتصادي لا يقوم على الجباية بقدر ما يقوم على توفير المستلزمات الأساسية لاستمرار الموارد المالية، «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج»، مع تأمين الضمانات الاجتماعية، الذي يتضح في قوله (ع): «إن الناس كلهم عيالٌ على الخراج وأهله». ولم يغفل الاستشارة إلى الاعتماد على أهل الخبرة والاختصاص، وذلك ضمن وصاياه لمالك: «وأكثِر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك».

كان عليٌّ صارماً في الحق وإرجاعه لأهله، لذا فالحقوق لا تسقط عنده بالتقادم، يقول: «فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تُزُوِّج به النساء، ومُلِكَ به الإماء لرددته إلى حاله». وهذا الأمر أزعج المترفين من أغنياء المسلمين آنذاك، الذين أحسّوا بالخطر يهدّد مصالحهم، فأعلنوا العصيان والتمرّد، فبدأوا بالمساومات معه، لكنه رفض قائلاً: «وإما وضعي عنكم ما في أيديكم فليس لي أن أضع حق الله»، لذلك أضاع الناس علياً، فمنهم من أراد التخلص منه فسلك الحيلة والغدر طريقاً، وجماعة لم تعرف قدَرَه، وضاعت البوصلة لدى جموع كثيرة منها، فعصوا إمامهم، ودأبوا على مخالفته حتى قال فيهم: «وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان... ولكن لا رأي لمن لا يطاع». حتى بلغ به الأمر إلى أن يدعو ربّه للخلاص من مجاورتهم واللحاق بالرفيق الأعلى بعد طول معاناة ومحنة وعناء.

عليٌّ استطاع أن يحوّل المعاناة إلى قيم وآمال، وأن يجسد الفكر إلى مبادئ رفيعة ونبيلة. إنه رمز العظمة وعنوان الإنسانية، لقد ضيّعته الأمة بجهلها وفسادها، ففقدناه وأدركنا حينها أن ينبوع الرحمة والروح جفّ بفقده من عالمنا الصغير المتهالك، فمن يداوي جرح الفقد ومرارة الصبر.

إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"

العدد 4333 - الجمعة 18 يوليو 2014م الموافق 20 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:47 ص

      نغم ..

      ان الامام علي عليه السلام كان ومازال اكبر مدرسة فيكفيه فخرا ان يكون باب مدينة علم الرسول صل الله عليه واله وصراط الله المستقبم الذي انعم الله علينا بولايته , يا رب ثبتنا على ولاية امير المؤمنين علي ابو الحسنين ونسالك بحسن العاقبه يارب .

    • زائر 2 | 3:50 ص

      هم لم يعرفوا قدره ولكننا عرفنا ذلك

      نعم نحن نعرف قدر علي ونعتز به وهو لنا فخرا وعنواناً للشجاعة والرأفة هو أب اليتامى هو في قلوبنا يكفينا شرفاً أن نذكره كل يوم في صلواتنا بعد الله ورسوله يكفينا أن نحيي سيرته ونسير على نهجه هم قتلوه بسيفهم ولكنه حي في قلوبنا فحب علي عبادة حب لا نعرف كيف تغلغل في نفوسنا وامتزج بدمائنا نعم ياعلي لم يعرفوا قدرك ولكن قدرك عندنا نحن شيعتك ومواليك فأنت شفيعنا يوم القيامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله

    • زائر 1 | 3:06 ص

      ياعلي

      علي ... عالم ضاع بين جهال ... بأبي انت وأمي يا أمير المؤمنين

اقرأ ايضاً