العدد 4366 - الأربعاء 20 أغسطس 2014م الموافق 24 شوال 1435هـ

فلنشاركه عيد ميلاده الحزين!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الموسيقِي الأرجنتيني إجناسيو أوربان. شاب يبلغ من العمر 36 عاماً. كان يوم الثامن من أغسطس/ آب الجاري بالنسبة له يوماً ليس كسائر الأيام. فقد أُعلِنَ في ذلك اليوم أنه عاد إلى أسرته لأول مرةٍ منذ ستة وثلاثين عاماً عاشها مُتَبَنَّياً لدى آخرين دون أن يعرف الأمر!

كيف حصل له ذلك؟ كان أوربان ضحيةً ضمن مئات غيره لما عُرِفَ في الأرجنتين بضحايا الحرب القذرة. فقد وُلِدَ في السجن العام 1978 حيث كانت أمه معتقلةً سياسيةً لدى الحكومة العسكرية التي تأمَّرت على الأرجنتين في الفترة من 1976 – 1983.

بعد شهرين على ولادة أوربان في السجن، اقتِيدت أمه من زنزانتها إلى المقصلة، حيث نُفِّذ فيها حكم الإعدام من قِبَل الطغمة الحاكمة في بوينس آيرس، ضمن ثلاثين ألف شخص، تمت تصفيتهم سراً أو أعدموا خلال تلك الفترة السوداء على ذلك البلد اللاتيني.

أمَرَت الحكومة العسكرية في الأرجنتين بأن يؤخذ أوربان ضمن مئات من الأطفال الذين أعدمت أمهاتهم لأسباب سياسية إلى عوائل أخرى للتبنِّي، وتم أخذ آخرين إلى الملاجئ. لم يكتشف أوربان ذلك إلاَّ عندما كبُر، وعَلِمَ بمنظمة أبويلاس دي بلازا دي مايو.

وهي المنظمة التي أخذت على عاتقها لَمّ شمل العائلات التي فرَّقتها الديكتاتورية، حيث قامت بسؤال كل مَنْ شُكَّ في نسَبِه من الأرجنتينيين، لتأخذ منهم حمضهم النووي (DNA)، وهو ما فعلته بالضبط مع إجناسيو أوربان، الذي أعطى المنظمة عيِّنةً من دمه، لتظهر النتيجة بعد ثلاثة أسابيع أنه ولدٌ لامرأة أعدِمت وهو معها في الحبس.

وفي الجهة الأخرى كانت جدته الناشطة الحقوقية استيلا دي كارلوتو تبحث عنه هي أيضاً، لأنها عَلِمَت بأن ابنتها قد وَلَدَت في السجن، وأن المولود على قيد الحياة. وقد أكمَل أوربان اليوم الرقم مئة وأربعة عشر من الضحايا الذين تقطعت بهم سبل الحياة الأسرية إلى حدّ الآن.

المحزن أنه وعندما جلس أوربان إلى جانب جدته بعد لقائه بها، قال لوسائل الإعلام المتجمعة حول طاولة المؤتمر الصحافي: أدعو الأرجنتينيين غير الواثقين من نسبهم إلى الخضوع لفحص الحمض النووي. لو كان لديكم أدنى شك فلن تخسروا أي شيء عبر القيام بخطوة إلى الأمام. عليكم القيام بهذه الخطوة فمن المهم التئام هذه الجروح القديمة».

هذه مأساةٌ حقيقيةٌ من مآسي الديكتاتورية اللابشرية. مآسٍ لا تنتهي حتى حين يُغادر الظالمون الحياة. فالنكبات السياسية والحكم الديكتاتوري لا تزول مأساته بانتهاء لحظة حكمه، بل هي مآسٍ متوالدة ومعقّدة ومركبة. فحين يُسجن سياسي فإن الأمر لا يتعلق بساعة حبسه، ولا بالمدة التي يقضيها فيه، بل إنه يترك وراءه أسرة، تعاني من قصر اليد، أو ضياع الأبناء، فضلاً عن بقاء الجانب الحقوقي والنفسي مفتوحاً حتى يأذن الله. وهو أمر يتكرّر في حالات القتل والاختطاف والتصفيات والنفي.

في الأرجنتين، ذهب خوان كارلوس أونغانيا، ثم بروبيرتو ليفينجستون، ثم أليخاندرو أوغستين لانوسي، ثم خوسيه لوبيز ريجا، ثم ليوبولدو غالتييري منذ الستينيات والسبعينيات، لكن مآسي الأرجنتينيين لازالت حتى يومنا هذا قائمة ونحن نقف أمام تجربة إجناسيو أوربان، رغم مُضِي أزيد من تسعة وعشرين عاماً على زوال الديكتاتورية من بوينس آيرس.

كل لحظة من لحظات أوربان وهو غائبٌ عن أهله لها حكاية. وإذا ما حصرنا الثلاثين ألفاً من ضحايا الحكم العسكري في الأرجنتين، فإن لحظات حياتهم المأساوية لا يسعها حبرٌ إلاَّ كمِداد البحر، كي تُدوَّن. وإذا ما قدَّرنا أن لكل واحد أسرة تتكون من خمسة أفراد فهذا يعني أننا أمام 150 ألفاً من الأرجنتينيين ممن لهم قصص وحكايات لا تنتهي من الألم.

لقد قدَّرت السماء أن هذه الأرض تَسَع الجميع، لكن هناك مَنْ سعى ويسعى لجعلها غير ذلك. فمَنْ يكفيه خمسمئة متر لمسكنه، لا يهنأ له بال إلاَّ إذا استحوذ على مليون متر. ومَنْ يكفيه ألفا دينار لا يهنأ إلاَّ بكَنْز المليارات من الدنانير. ومَنْ يكفيه عشرة أثواب، لا يهنأ إلاَّ بمئة ثوب منها. ومن هذا كله ينشأ الظلم على الناس.

إنه نَهَم السلطة، الذي يُبِيح عند طالبيها أن يسحقوا الجماجم ويطأوا الصدور ويفقأوا الأعين ويختطفوا الناس، لا حُرمة في ذلك عندهم ولا ضمير. وهم في ذلك لا حظ لهم في دنيا ولا آخرة. ففي دنياهم لا يُتلَى على ألسنة الناس سوى الدعاء عليهم ولعنهم. أما في الآخرة، فحسابهم ليس كحساب العامة، الذين لم يأمروا ولم يتأمَّروا ولم يتبعوا ظالماً، ولم يكونوا له عوناً ولا سنداً.

أتذكر هنا ما أورده ابن عساكر، حول مقت السلطة وبلائها وهو أن زياد بن أبيه سألَ جُلسَاءه يوماً: مَنْ أغبَط الناس عَيشًا؟

قالوا: الأميرُ وجُلساؤُه.

قال: ما صَنَعتم شيئاً. إن لأعواد المنبرِ لَهَيْبَةً، وإن لِقَرع لِجَامِ البريدِ لَفَزعَة. ولكن أغبط الناس رجلٌ له دارٌ لا يجري عليه كِرَاؤُها، وله زوجةٌ صالحة قد رَضِيَتْه. فهما راضيان بِعَيشَيْهِما، لا يعرفنا ولا نعرِفهُ، فإنه إن عَرَفَنا أتْبَعنَا ليلَهُ ونَهَاره، وأذهَبنا دِينَه ودُنياه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4366 - الأربعاء 20 أغسطس 2014م الموافق 24 شوال 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 7:05 ص

      كلمة لامير المؤمنين علي -ع -

      منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال ومن الممكن ان نضيف مناهيم طالب جنس يضعف بالكبر وطالب سلطة مرتبط بطالب المال وقد قال الشيخ حسن الدمستاني من يلهه المرديان المال والامل = لم يدر ما المنجيان العلم والعمل

    • زائر 5 | 5:41 ص

      قلم ادبي مبدع وواقع مر أليم

      بارك الله فيك استاذي

    • زائر 4 | 5:24 ص

      قصة بها عبر

      و لكن هل معتبر؟

    • زائر 3 | 1:59 ص

      اليسار الارجنتيني كان الجدار أمام الاجرام العسكري

      قدم اليسار الارجنتيني خلال تلك الفترة عشرات الآلاف من الشهداء في مواجهة الديكتاتورية

    • زائر 2 | 1:23 ص

      صدقت

      يسلم قلمك أستاذ و الموضوع قوي و جذاب و يتخلله واقع مرير
      منير الشهابي

    • زائر 1 | 10:23 م

      مقالات تثير الشجون وتفتح الجروح الملتامة

      لكن في طيات بعضها هناك احداث سعيدة ، انه القدر خيره شره ولكن حب المال والسلطة هنا شران مستطير ان فالمال عديل الروح والسلطة كما قال بعضهم لاخيه سانزع عيناك اذا نازعتني الحكم

اقرأ ايضاً