العدد 4636 - الأحد 17 مايو 2015م الموافق 28 رجب 1436هـ

محاولة تزوير الفصول... والحرْث في البحر!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في الزمن الذي نعيشه لم يعد العنوان غريباً (تزوير الفصول)؛ كما أن ما يحدث من حولنا ليس غريباً، وليس ضرْباً من أوهام؛ أو تهيؤات. ربما لفرط تدافعه بأشكال وألوان مُتنافرة، يبدو كلوحة سيريالية.

ما شُنَّ من هجمات على الربيع العربي، وما وُظِّف من أموال كي يتفرَّغ له إعلام دول، وإعلام «كباريهات» أيضاً، وما كُرِّس من نزاعات وحروب؛ ومحاولات طأفنة، منذ إرهاصاته الأولى في نهايات العام 2010، ومطلع العام 2011؛ وصولاً إلى اللحظة الراهنة، يتعدَّى حملات التزوير والتشويه التي طالت العرب في الخمسين عاماً الماضية خارج الحدود بفعل المال الصهيوني، ومال العرب أيضاً؛ وها هم اليوم يقومون بالدور نفسه، بشكل ذاتي، وبانفتاح شهية ضدّ شعوبهم وجغرافياتهم وتاريخهم، وحاضرهم، والمستقبل الغامض الذي يبدو أنه لن يجيء.

في الثمن الباهظ الذي تم دفعه؛ ومازال يُدفع؛ تتذكَّر الشعوب دائماً أن مسيراتها وحراكها الذي توضع أمامه مئات وآلاف المعوِّقات والحواجز، في حراسة تشريع يتم تفصيله بحيث يتلاءم مع صناعة إنسان مشوَّه وخائف ومضطرب ومُذعن، بات هو الطريق الذي سيقودها إلى الحياة لا الموت، كما تفعل بعض منابر ذلك الإعلام. لن تنسى الذي استهان بدمها بذلك البرود والشهوة، ولن تنسى الذي لم يتردَّد في مخاطبتها يوماً على أنها قطيع داخل في ملكية خاصة، ولن تنسى الذي لم يقدِّم دليلاً واحداً على أنها كانت في حضرة الحياة في ظل ما حدث ويحدث.

كأنَّهم كلَّما رأوا ربيعاً يمتدُّ في العالم، ذكَّرهم ذلك بخريفهم المُقيم. ذلك الاندماج الخرافي مع كل ما لا يدل على الحياة. كأنَّهم بذلك يُريدون أن يحكموا شعوباً وقبائل من الموتى؛ كي يضمنوا عدم حشْرهم في زاوية المُحَاججة التاريخية، والمساءلة عن كوارث الحاضر وإخفاقاته، وغموض المستقبل.

ولم يكن محْض لعب باللغة، وترتيب الخيال في درجاته القصوى ذات نص أو وحشة واغتراب؛ حين كتب الشاعر الكونيُّ محمود درويش «لا تسأل أستاذ التاريخ. لُقمة عيشه يأخذها من الأكاذيب. وكلَّما ابتعد التاريخ، عادة، كلما اقتربت الكذبة من البراءة، وقلَّ أذاها». على رغم أن من يسهمون في كل هذه الكوارث والإخفاقات التي ضاقت بها الحياة، لم يكونوا يوماً أساتذة في التاريخ، لأن الحياة التي هم عليها لا تقول سوى أمر واحد: إنهم لم يتعلَّموا منه شيئاً، ولا يريدون ذلك أساساً، ولا يبحثون عن لقمة عيش، ماداموا يملكون ما على الأرض وما تحتها! ولا يعنيهم الاقتراب من البراءة شيئاً؛ لأنهم أعلم بتراث ضخم من المكْر والأذى الذي مارسوه؛ بل وصل الأمر ببعضهم أن يرى في الغزاة أصدقاء حتميين كي لا يصحوا على المنافي الباردة، والمحاكمات التي وإن كانت نادرة؛ إلا أنها تذكِّرهم ببشريِّتهم، والضعف والقلق الذي ينتاب أي كائن لحظة حصاره.

ثم إن المقام مقام الزمن الراهن؛ لا التاريخ، بكل الوصفات الجاهزة فيه من أبطال وقادة ومعارك خلاص وتحرير أو معارك إبادة. إنه الزمن الكالح، والزمن المريض حين يكون في حضرة المرضى، وأولئك الذين لديهم قابليات تزوير أي شيء يتطلَّب بالدرجة الأولى قدرة على محاكاته، والتفوُّق عليه؛ علاوة على خيال استثنائي يدّعي قدرته على ملامسة المعجزة؛ لكن في محاولات تزوير الفصول، اشتغالاً على الربيع العربي، يثق الذين تصدَّوا له بأن عاملاً واحداً يتجاوز السحر، ويكاد يقترب من صنع المعجزة، يمكنه أن يعمل على تحريف الفصول ووظائفها، ويحتكر الربيع الذي يراه؛ ولو كان متورِّطاً بالجحيم أو الخريف؛ لا فرق، مادام مُهيمناً على الوقت؛ ولديه من الموارد التي تضمن دوران عجلة الزيف والتزوير؛ في استبعاد، لن يكون حصيفاً، لسنن التاريخ الذي لا يريدون استيعابه من جهة، وسنن الجغرافيا وبشرها من جهة أخرى.

هل يمكن أن يستمر ذلك طويلاً؟ أعني محاولة تزوير الفصول؛ بحيث يتم تحويل الخريف الذي كرَّستْه الأنظمة العربية، إلى ربيع ضمن منظورها واشتراطاتها بتلك المساحة والفضاء الهلامي من الوعود؛ وتعميم السراب؛ وإشاعة الوهم؟

بالمنطق التاريخي، وبطبيعة التغيُّر والتحوُّل، والخروج على الثابت، لا يمكن أن يستمر ولن يصمد أمام أمل الشعوب ومحاولاتها في واقع بعيد عن الشيخوخة وهي في فتوَّتها؛ والأحلام التي ستنتصر؛ لا الأوهام التي تُصرُّ على انتصارها في ظل هذا الغياب الصريح: غياب الإنسان؛ أو هكذا يُراد له. الأوهام ذاتها التي صارت فضاء الناس وقيمتهم!

لم تعد محاولات لتزوير الفصول في التحوُّلات التي يُراد التحكُّم بالأثر والفعل الذي يمكن أن تحدثه، باستتباب وتأكيد أن الربيع ربيع والخريف خريف؛ دون توهُّم القدرة على حرْف المسارات؛ بحيث يتم تكييفهما تبعاً للمزاج أو التلويح بالقوة والبطش؛ بل تعدَّتْ بالضرورة والمنطق، وفي وهْم مُركَّب، باللعب بالزمن وتزويره والتحكُّم في ثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه وأسابيعه وشهوره وسنواته! حين لا تُثمر الحياة عبر ذلك الزمن كله إلا بالخيبة والهزائم والانكسارات والفقر والأمية والأمراض والارتهان.

كأنه لا ينبغي الكتابة في هذا الزمن المُشوَّه بفعل التزوير والمحاولات التي لا تتوقف؛ امتداداً إلى كل شيء طال الحياة العربية، إلا في تعريف الفصول؛ أبعد من صفتها الحقيقية؛ لا تلك التي لا تكفُّ المحاولات في سبيل أن ترى ما تريد رؤيته منها، والنأي بما يجرح وجودها قبل حاسَّة بصرها! الصفة التي تقرِّرها الجهات نفسها التي شنَّت هجماتها على الربيع العربي، ووظَّفت الأموال كي يتفرَّغ له إعلام دول، وإعلام «كباريهات» أيضاً، وكرَّست النزاعات والحروب؛ ومحاولات الطأفنة، منذ الإرهاصات الأولى في نهايات العام 2010، ومطلع العام 2011؛ وصولاً إلى الفصول الأخيرة من التقسيم التي تشهدها الأرض العربية؛ وليس التعريف وحده هو الضرورة، بقدر ما هو التعامل مع حقيقة تلك الفصول، والحق في أن يمارس الناس حقهم في الحياة، بعيداً عن الشرط، وآلة القمع، والمراقبة على مدار الساعة، وإخضاع خياراتهم للفحص الأمني.

زمن التلاعب بالخيارات ستحين نهايته؛ وسيكون الأمل في التلاعب بالفصول؛ ربيعها وخريفها، ضرْباً من الحرْث في البحر!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4636 - الأحد 17 مايو 2015م الموافق 28 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 1:13 م

      توصيل الفكرة بأقل سطور وأكثر وضوح القراء مستويات

      عفوية شباب الربيع استغلها الاسلاميون لتحقيق أهدافهم مره باسم الخلافة الإسلامية ومرة باسم نائب الامام واباحو القتل والفتنة المهم نشر ما يعتقدون أنهو تكليف وواجب من الخالق وانتاجهم ما نشهده من تحارب

    • زائر 5 | 3:33 ص

      التمصلح ومقايس الزمن

      الظواهر المؤقتة لا تملك الزمن أو القدرة على إطالة تسيره ، مهما بلغت أو تم نشر فقعاتها عبر مساحاتها الزمنية ، في عالم يزداد فيه توسع محيط دوائرتفاعله المتدخلة ، والتي قد تنقلنا إلى محركاته فصوله الحقيقية التي قد لا نتوقعها..مع التحية

    • زائر 4 | 2:28 ص

      ايران

      ... ايران التي يعيش شعبها الفقر وهي تمول الدول بالسلاح والمال من اجل تخريب

    • زائر 3 | 12:14 ص

      انه خريف و ليس ربيع

      انه خريف و ليس ربيع هذا الذي يأتي بقوى الرجعية و التخلف و الثيوقراطية

    • زائر 2 | 11:56 م

      لا ادري

      هل انت متفائل جدا ام انا المتشائمة
      اجد ان التاريخ نسخ مكررة ولا جديد الا في ادواته ...في كل زمن وعصر من القديم للحاضر فهناك المغلوب على امرهم وهناك المتنورين وهناك المتسلقين وهناك المارقين وهنااااك.....اجد انه لن يكون وعي عالمي وعام يشمل اغلب الشعوب وعامتها

    • زائر 1 | 11:55 م

      لا ادري استاذي المبدع

      هل انت متفائل جدا ام انا المتشائمة
      اجد ان التاريخ نسخ مكررة ولا جديد الا في ادواته ...في كل زمن وعصر من القديم للحاضر فهناك المغلوب على امرهم وهناك المتنورين وهناك المتسلقين وهناك المارقين وهنااااك.....اجد انه لن يكون وعي عالمي وعام يشمل اغلب الشعوب وعامتها

اقرأ ايضاً