العدد 4650 - الأحد 31 مايو 2015م الموافق 13 شعبان 1436هـ

فشل الإرهاب وسقطت الفتنة

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

عمليتا الدالوة والقديح لم تستهدفا تخريب المرافق الاقتصادية في الدولة، بل هدفتا إلى ما هو أعنف وأقسى من ذلك بكثير، فالهدف زرع بذور الفتنة، وحصاد لجهد طويل ومستمر من بث ثقافة التحريض والكراهية.

صحيحٌ أنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيه بلادنا أعمالاً إرهابية، تستهدف أمنها واستقرارها، ولكنها المرة الأولى التي يستهدف فيها بيت من بيوت الله، وأثناء تأدية صلاة الجمعة، ويسقط فيها هذا العدد الكبير من الشهداء والجرحى.

هل يمكن قراءة ما جرى بمعزل عما يجري من حولنا، في عدد من البلدان العربية، وبشكل خاص في العراق وسورية، حيث تتمركز «داعش»، وتسيطر على أجزاء كبيرة من أراضي البلدين؟ سيطالب كثيرون بأن يجري التعامل مع حادثة القديح، باعتبارها عملاً إرهابياً معزولاً عن الاستراتيجية الكبرى، التي بدأ تنفيذها منذ أكثر من عقدين من الزمن، واتضحت معالمها خلال السنوات الأربع الماضية، وكان من نتائجها تفكيك كيانات وطنية، وتسعير الحروب الطائفية، تمهيداً لإعادة صياغة خارطة المنطقة، على أساس استبدال الدولة الوطنية، بكانتونات طائفية مجهرية.

لم يعد هناك مجالٌ للسجال، فتنظيم «داعش» أعلن تبنيه ومسئوليته عن ارتكاب الجريمة النكراء، بحق أهلنا في القديح. وكان قبل قرابة ثمانية أشهر من هذا التاريخ قد ارتكب جريمة مماثلة في قرية الدالوة بالإحساء، ذهب ضحيتها عدد كبير أيضاً من الشهداء، نحسبهم في الجنة إن شاء الله. والخيط الرابط بين الحدثين هو ارتكابهما في أماكن عبادة.

ارتكبت حادثة الدالوة في شهر محرم الحرام، وأثناء طقوس العزاء باستشهاد الإمام الحسين، سبط رسول الله، وسيد شباب أهل الجنة. أما حادثة القديح فكانت استهدافاً مباشراً للمصلين في مسجد الإمام علي، وأثناء تأدية صلاة الجمعة.

ما تقودنا إليه هذه المقدّمة هو وجود نوايا مبيتة، بدأ تنفيذها للتسعير الطائفي، وتفكيك مكونات الوحدة الوطنية في هذه البلاد. فالحدثان بخلاف حوادث التفجير السابقة، استهدفا لأول مرة أماكن دعاء وعبادة. والفرق كبير بين استهداف مؤسسات اقتصادية ورسمية، وبين استهداف أماكن عبادة. فالطبيعي أن تكون أعمال الإرهاب بحق مؤسسات الدولة والمؤسسات الاقتصادية، عوامل توحيد والتفاف من قبل الشعب حول قيادته، باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على تحقيق الأمن والاستقرار.

في الحالات السابقة، لم تكن هناك فرصة لتنشيط الخطاب الطائفي البغيض، وتبرير فعل الجريمة من بعض من يحتسبون زوراً وبهتاناً على الوطن، والذين يستهدفون وحدته، وأمنه واستقراره. وكانت مهمة القيادة السياسية واضحة في هذا المجال: التوجه مباشرة، ومن غير رحمة، نحو محاربة الإرهاب، ولم يكن عليها أن تعالج التبعات النفسية وقضايا الوحدة الوطنية وهي تتصدى لجرائم التخريب. فالكل في خندق المواجهة، والجميع قيادةً وشعباً في خيمة واحدة، وسفينة واحدة.

عمليتا الدالوة والقديح لم تستهدفا تخريب المرافق الاقتصادية في الدولة، بل هدفتا إلى ما هو أعنف وأقسى من ذلك بكثير. فالهدف هو زرع بذور الفتنة، وحصاد لجهد طويل ومستمر من بث ثقافة التحريض والكراهية. ولذلك تغدو مهمة المواجهة من قبل القيادة والشعب شاقة وعسيرة، لأن الرد على ذلك هو مواجهة ثقافة الكراهية، وأن تستبدل ثقافة بثقافة ورؤية برؤية، بما يعزز وحدة النسيج الوطني، ويهزم خفافيش الليل، ويعيد للجميع السلام والطمأنينة.

في حادثني الدالوة والقديح المروّعتين، تبيّن بما لا يقبل الشك والجدل، رسوخ الانتماء الوطني، للمصابين وأهاليهم. تجلت ردود الفعل بوعي عميق لأهداف الإرهاب، فكان أن شهدنا انضباطاً من قبل عوائل المصابين والأهالي، عبّر بصدق عن وعي وطني رفيع. وجاءت ردود الفعل من كل مناطق المملكة، من الكتاب والمثقفين، ومن كل مكونات المجتمع السعودي، في فاجعة القديح كما في حادثة الدالوة، لتفشل مخططات الإرهاب، ولتعلي من شأن الوحدة الوطنية.

وفي كلتا الحالتين أيضاً، برز التلاحم بين الشعب وقيادته. فالإرهاب لا يستهدف بلداً بعينه، ولا أشخاصاً بعينهم، وإن وجّهت السهام مباشرةً لصدورهم. الإرهاب مشروع سياسي يستهدف زجّنا في قلب الحرائق التي تجري من حولنا في عدد من البلدان العربية. إن هدفه وجودنا جميعاً، ووجود وحدتنا، ولا يمكن فهم حقيقته، إلا في وضعه في سياق الأجندات الكونية الكبرى، الهادفة لتفتيك المنطقة بأسرها، والتي بدأ الإفصاح عنها منذ مطالع التسعينيات من القرن الماضي. وقد تعزّزت باستراتيجيات وخرائط تفصيلية، لم تعد سراً على من له قلب وبصيرة.

في القديح قدّمنا قافلة رائعة من الشهداء، نحتسبهم جميعاً قرباناً لوحدتنا الوطنية، ووقع مصابون كثر، وتجلى التماسك الاجتماعي في آلاف البشر، الذين زحفوا إلى مستشفيات القطيف والدمام، وإلى الوحدات الصحية، للتبرع بالدم. وامتزج دم أبناء هذه البلاد في أوردة الجرحى، والدم لا يسأل عن المذهب، ولا عن الجنس، ولا عن المنطقة. وكانت ردود الفعل حاسمةً في كل مدن المملكة، في استنكار الجريمة وإدانتها والمطالبة بإلحاق أقصى العقوبة بمرتكبيها.

في يوم الإثنين من الأسبوع الماضي، كان مشهد تشييع الشهداء مهيباً وجليلاً. صحيح أن الحزن كان كبيراً، للحد الذي يعجز فيه المرء عن توصيفه، لفقد الأهل والأحبة، لكن القافلة ستظل تسير، وسيطل الربيع الأخضر مجدّداً، وستنتصر قيم الوحدة والفضيلة والتسامح، ويُهزم نهج التكفير. وربما يحاول الإرهابيون مرةً أخرى العبث بأمن هذا الوطن، لكن كيدهم سيرد إلى نحورهم. ففي القديح فشل الإرهاب وسقطت الفتنة، وعاد الإرهابيون إلى قبورهم، مولين الأدبار.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4650 - الأحد 31 مايو 2015م الموافق 13 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:44 ص

      لم يفشل الأرهاب ولم تسقط الفتنة بل انهما في البداية

      الى الكاتب
      ارجو ان لا تتوهم
      لم يفشل الأرهاب لأن هناك دولاً تغديه وتنفق عليه مليارات الدولارات سنوياً وما الأرهاب الذي بدأ بالجوار إلا بداية.
      ولم تسقط الفتنة لأن هناك شيوخ دين عملهم الأساسي النفخ في هذه الفتنة لأنها مصدر رزقهم الوحيد ومن خلالها يتربعون على ملايين الدولارات والأمتيازات الأخرى. اقرأ وأستمع لما يقال من على مناير رسول الله. ولم تسقط الفتنه وكتاب الكذب والتزوير والتحريض يملئون الآفاق

اقرأ ايضاً