العدد 4891 - الأربعاء 27 يناير 2016م الموافق 17 ربيع الثاني 1437هـ

كي لا تكون حياتنا «كذبة»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لنأخذ نَفَساً عميقاً ونتأمل حولنا: ما هو حجم الكذب الذي يُطوِّق عقولنا وقلوبنا؟ أنتَ وأنا وهؤلاء وأولئك؟ إنه حتماً كبير جداً. ففي كل يوم تنهمر علينا أقوال وصور وكتابات مِنْ كلّ حَدْبٍ وصوب، كثيرٌ منها ليس له حظٌّ من الصدق ولا الحقيقة، لكن المؤسف أن كثيرين يُصدقون ذلك، ربما لجهل أو تعصُّب نحو تصديق كل ما يَرِدْ إليهم، ما دام ضد مَنْ يكرهونه دينياً أو سياسياً أو فكرياً.

تصديق ذلك الكذب هو تشجيع للكذب ذاته كي ينتشر، وبالتالي يكون مُشجِّعوه جزءا من ذلك العمل السيئ. فإنْ لم نكن نحن أصحاب الكِذبة، فنحن مَنْ صدّقها ونشرها. وبثُّ الشيء ونشره قصداً هو اعتراف وإقرار به. ولو تخيّلنا أن ما مِنْ أحد قام بنشر كِذبة، فإنها حتماً ستموت وتُقبَر ولن يسمع بها ولن يتضرّر منها أحد. لذلك يُصبح حبس «الحديث الكاذب» أكبر خسارة لقائله.

في هذا الزمان (وقبله أيضاً) كم من كلام حُرِّفَ عن مواضعه؟ وكم من كلمات وُضِعَت في أفواهٍ هي لم تقلها؟ وكم من صورة حُجَّ بها في كل موضع على أنها ابنة هذا الحدث وهذه الأرض، ثم تُنسَب لحدث وأرض أخرى، وهكذا دواليك وكأنها دعاية حرب؟ يعجّ تويتر وفيسبوك وواتس آب وانستغرام بِكَمٍّ هائل من الأحاديث والصور والتصريحات التي تتم سرقتها وتركيبها كيفما شاء الأفَّاكون.

الغريب أننا كلما تطوَّرنا تكنولوجياً تخلفنا أخلاقياً، وكأن المعادلة عكسية: إذا زاد منسوب التطور قلّ منسوب الأخلاق! والحقيقة أن هذا ليس خللاً في العلم والتقدم التكنولوجي، بل في البشر الذين يُوظِّفون كل شيء جديد وعلمي في معاركهم الجاهلية الأولى: خلافات دينية/ طائفية وسياسية وفكرية! هذا يعني أننا: «لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية» كما قال الشاعر السوري نزار قباني.

هذا الأمر يجعلنا نتأمل أكثر في الحقب التي سبقتنا. لو أننا فكرنا في تلك العصور كيف كان الكذب يفعل فعلته فماذا سنجد؟ سنرى الأهوال؛ أحداثا وقصصا مُركّبة. فخلال الصراعات التي وقعت في هذا العالم سواء في القرون الثلاثة الماضية أو ما قبلها حيث الدول أو الدويلات، وما قيل عن هذا وفي حق ذاك أشياء يجب النظر إليها بـ «ريبة» أو على الأقل بنسبية كي لا نعيش حياتنا بالكذب.

هل ما دُوِّن عن تلك التفاعلات البشرية كان صحيحاً أم لا؟ هل المنتصرون زيَّنوا الأحوال لصالحهم، وهل المهزومون زادوا من كذبهم طمعاً في التعاطف معهم؟ وهل السيئون لم يقولوا بهتاناً في الخيِّرين؟ وهل أصحاب السلطة لم يدفعوا للوضّاعين كي يقولوا ويكتبوا في خصومهم السياسيين ما يُشوّه شخوصهم وتاريخهم؟!

بل هل سلم الرجال من كيد النساء، وهل سلم النساء من هِجاء الرجال وأن يُقذَف في أعراضهن كما شاهدنا في قصائد الشعر التي قيلت على أثير المعارك الشخصية والقبلية! ليبقى السؤال الكبير هو: هل تكفي هذه التدوينات التي كُتِبَت كي نتوثق من أن كل ما حصل كان كذلك فعلاً؟!

وإذا ما علمنا أن الذاكرة يُضعفها الزمن، فمن الأوْلَى أن نفغر فاهاً ونحن نطالع الأزمنة التي سبقتنا بقرون! ماذا حصل فيها بالتحديد، وهل مَنْ كتبوا لنا ما جرى في أحوالهم هم أهل ضمائر وحياد أم مُجيَّرون لصالح قوى سياسية أو دينية في الداخل أو الخارج؟ إنه لأمر فظيع حين يتفكّر المرء في كل هذا، ما دام البشر خطّاؤون ولهم غرائز متنافرة تنشط وتخبو.

لو جاء أحدٌ الآن ودوَّن أفكاراً أو قيَّمَ أشخاصاً ونشرها في كتاب، ثم جاء مَنْ ينقلها عنه في كتاب آخر، ثم جاء مَنْ يقرؤها بعد 6 قرون ويُحدِّث بها، فإنها حتماً ستكون أفكاراً وتقييمات مُصدَّقة ونفيسة عند مَنْ سيأتون لاحقاً! وهم أيضاً سيبنون عليها باعتبارها حقائق واكتشافات عظيمة! وكم حصل مثل هذا في كتب سابقة بتنا اليوم نتلقفها وكأنها الحقيقة الناصعة يمكن التعويل عليها في بناء هويتنا!

أتذكر هنا ما قال مروان بن محمد لـ عبد الحميد الكاتب عندما تيقن أن حكمه سينهار: «قد احتجت إلى أن تصيرَ مع عدّوي وتُظهر الغدر بي؛ فإن إعجابهم بأدبكَ وحاجَتهم إلى كتابتِك تدعوهم إلى حُسْن الظنّ بك، فإن استطعتَ أن تنفعني في حياتي، وإلاّ لم تعجز عن حفظ حرمتي بعد مماتي. فقال عبدالحميد: إن الذي أمرتَ به أنفعُ الأشياء لكَ وأقبحها بي، وما عندي غير الصَّبر معكَ حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك» كما جاء في العقد الفريد لابن عبد ربّه الأندلسي.

عندما نفكر في هذا الأمر بشكل جِدِّي يجب أن نكون واعين كما يجب لما نقوله ونسمعه ونجترّه من أقوال. أن نَحْذَر من أن نعيش في عالَمٍ ملؤه الكذب فتصبح حياتنا كِذبة. فالعهد الجديد الذي يجب أن يُؤطر حياتنا ويُنظمها هو ملاحقة ما يُقال ويُنشر للتثبت منه قبل بثه، لا أن نعتبره حقائق ومُسلّمات (حتى ولو كانت في صالحنا وضد خصمنا) فنضر بها حاضرنا ومستقبل أجيالنا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4891 - الأربعاء 27 يناير 2016م الموافق 17 ربيع الثاني 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 3:59 ص

      ...

      واحده من أجمل وأفضل الكتابات

    • زائر 7 | 3:56 ص

      أحسنت

      جميل جدّاً، حقيقي جداً. ياريت الكل ياخذ هذا الكلام بكل جد وينظر الي نفسهه وواقعه ويحاول التغيير .

    • زائر 6 | 2:16 ص

      لا

      المثل ايقول : ( لو خليت خربت )

    • زائر 5 | 12:57 ص

      مع الأسف

      حياتنا كلها مشبعه كذب × كذب ،،، القاده كاذبون الشعوب كاذبه رجال الدين كاذبون أقاربك كاذبون ووووو لا إستثناء.

    • زائر 4 | 12:21 ص

      صباح الخير

      نعم انحرفنا عن الطريق القيم الكذب أحد خيوط النفاق والمنافقين حرمت عليهم الجنه وجعلوا في الدرك الأسفل من النار هاده مساكنهم والمنافق اخو الكذاب وكلاهما أشد عذاب من الكافر القلم وما يسطرون ايه فى الدقه ولكن بعض المثقفين وبعض علماء المنابر الجمعه لا يرون فيها شي يكذبون ويكدبون ويكدبون والأكثر من هادا وذاك يصبغون عليها من أحاديث مكدوبه على صحابه رسول الله لإرضاء بعض المحسوبين اشتروا مرضات المخلوق بسخط من الخالق

    • زائر 3 | 12:09 ص

      Nice artical

    • زائر 2 | 11:28 م

      أحسنت

      مقال موفق

    • زائر 1 | 10:52 م

      كي لا تكون حياتنا كذبه

      هذي تحليل تحليلاتك

اقرأ ايضاً