العدد 4918 - الثلثاء 23 فبراير 2016م الموافق 15 جمادى الأولى 1437هـ

مواقف لا تنسى من أرشيف ذكريات الراحل بطرس غالي (2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

تاريخ علاقتي ببطرس بطرس غالي طويل وممتد بصفته استاذاً ووزيرًا. ولا يسع المقام إلى الحديث عن ذلك تفصيلا. لكنني أذكر مواقف خاصة معه منها هذان الموقفان في واقعتين إثر توليه منصب أمين عام الأمم المتحدة، وهما يوضحان حب بطرس لمصر وإفريقيا بوجه خاص:

الأول: إنه كان إنسانًا حليمًا بمعنى الكلمة، فلم يكن يغضب على معاونيه إلا قليلاً، وكان يغضب للحق ولإفريقيا ولمصر، وأذكر أول لقاء له بعد توليه منصب أمين عام الأمم المتحدة مع المجموعة الإفريقية، فوجد عدد الحضور من السفراء الأفارقة في الاجتماع قليلاً، فانتقدهم بشدة قائلا: كيف يمكن أن يحترمكم الناس، وأنتم لا تشاركون في اجتماع مجموعتكم في الأمم المتحدة، وهو اجتماع يناقش قضايا إفريقية. وأستاء السفراء الحاضرون، ولكن لم يجرؤ أحد على الاعتراض على ما قاله وأدركوا أنهم مخطئين وأنه على حق.

الثاني: لا أنسى اتصاله بي في مكتبي بمقر البعثة المصرية، وكنت آنذاك قائما بالأعمال، وكانت الأمم المتحدة دعت إلى جلسة إجرائية قصيرة للموافقة على قبول دولة لختنشتين عضوًا بالأمم المتحدة، ورفع علمها أمام المنظمة الدولية، وتأخر ممثل مصر في الاجتماع، ونظر بطرس غالي إلى مقعد مصر ولم يجد أحداً يجلس فيه، فغضب بشدة ثم انتهى الاجتماع في غضون عشر دقائق، ولم يكن المندوب المصري المكلف بالموضوع قد وصل؛ فاتصل بي غالي غاضبًا، وأنَّبني قائلا كيف يكون مقعد مصر خاليًا؟ إن هذا موقف غير مسئول وإنه يعرفني كتلميذ له منضبط ولدي إحساس بالمسئولية، فقلت له إن الزميل المكلف بالمسئولية تأخر في الطريق من مقر البعثة إلى مقر الأمم المتحدة؛ نتيجة الازدحام المروري في نيويورك، فقال لي وهو في حالة ثورة إنه سيتصل بالرئيس مبارك في القاهرة لإبلاغه بهذا الخطأ الجسيم. لكنه في اليوم التالي قال لي إنه اكتفى بتأنيبي ولم يتصل بالقاهرة؛ لأنه يعرفني جيدًا، ولكنني أخطأت فلم أحضر شخصيًّا أو أرسل شخصًا أكثر تقديرا للمسئولية؛ لكي يحضر في الموعد المحدد للاجتماع. فشكرته.

ما أريد قوله إنه لم يكن له الحق رسميًّا كأمين عام للأمم المتحدة أن يؤنب سفراء المجموعة الإفريقية، ولا يؤنبني؛ لأنه لم يعد وزيرا إفريقيًّا أو مصريًّا بل أصبح موظفا دوليا، لكن إحساسه بالانتماء، وحبه لوطنه ولقارة إفريقيا جعله يتصرف بعواطفه ولم يجرؤ أحد على أن يلومه؛ لأن موقفه كان ساميًا. كما أنه أيضا لم يتردد في نقد السياسة البريطانية قائلا للمندوب الدائم البريطاني آنذاك وهو كان أمينًا عامًّا للأمم المتحدة إن بلاده لايزال بعض سياسييها ينظرون إلى المسئولين من الدول النامية على أنهم كما لو كانوا عبيدا في أرض الاقطاعي، مستخدمًا كلمة إنجليزية قديمة منذ تلك العهود. ومع الولايات المتحدة رفض الاستماع لما يسمى نصائح، وهي في حقيقتها تعليمات من الدولة العظمى الوحيدة، وأصر على نشر تقرير مذبحة قانا، إيمانا منه بواجبه ومقتضيات الأمانة المهنية وحقوق شعب فلسطين. لقد ساهم بطرس غالي إيجابيًّا في بناء الفكر السياسي الحديث في الأمم المتحدة، بإصدار مجموعة من الوثائق التي أصبحت مراجع للعمل في المنظمة الدولية، ومنها أجندة السلام وملاحقاتها وأجندة التنمية، كما دافع عن حقوق الإنسان في مؤتمر فيينا العام 1993، وحق الدول في احترام خصائصها في الوقت نفسه الذي آمن فيه بمفهوم العالمية لحقوق الانسان في القرن الحادي والعشرين. في وزارة الخارجية المصرية أعاد تقليدًا قديمًا بنشر مجموعة من الكتب البيضاء عن حرب 1967، وعن معاهدة الانتشار النووي، وعن سياسة مصر في السلام، وعن سياسة مصر في إفريقيا وغيرها وكان حظي أن أكون مسئولاً عن إصدار بعض تلك الكتب أثناء تواجدي في ديوان عام الوزارة آنذاك.

غمر الله العلي العظيم برحمته بطرس غالي في سلوكه وفكره ومثابرته على العمل في مختلف مراحل عمره، ولا أنسى أنه طلب مني في إحدى المرات أن اشتري شيئًا له زهيدا في قيمته في حدود عشرة دولارات، وعندما أحضرته رفض أخذه قبل أن يدفع الثمن فورًا، وحاولت إثناءه عن ذلك، فرفض بشدة وغضب، واضطررت لأخذ المبلغ على مضض حتى وافق على تسلم ما طلبه وأحضرته له، وقال لي: إنك أحق بمالك مهما يكن بسيطاً، وإنه غير محتاج له في هذه المرحلة من العمر، ولديه ما يكفيه ولا يأخذ شيئا بدون وجه حق، تلك بعض لمحات عن بطرس غالي الأستاذ والوزير وأمين عام الأمم المتحدة وأمين عام الفرنكفونية وغيرها، لقد كان شخصية متميزة وعملاقا فكريا، واستاذا عميقا في فكره ورؤيته، وإنسانا متواضعا وحريصا على العلم ونشره.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 4918 - الثلثاء 23 فبراير 2016م الموافق 15 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:30 ص

      والبوسنة ماذا عنها ؟

      كان يغضب لأفريقيا ولمصر ولكنه لم يغضب للمجازر التي قام بها الصرب في حق البوسنيين
      أين كان
      ألم يسمع ويرى مجازر الصرب
      لماذا صمت
      لا ننكر مواقفه في القضايا العربية التي أغضبت
      اسرائيل لكنه كان سلبيا في موضوع البوسنة غفر الله له

اقرأ ايضاً