العدد 4953 - الثلثاء 29 مارس 2016م الموافق 20 جمادى الآخرة 1437هـ

العفو عند المقدرة

يعقوب سيادي comments [at] alwasatnews.com

.كاتب بحريني

إن العفو عند المقدرة، من صفات الشهامة الإنسانية، والرقي الأخلاقي، والتعالي على الصغائر، والسبيل من أجل أن تتواد الضمائر، بما يجعل المرء محترماً عند غريمه قبل صديقه، وبما ينقل القول إلى حقيقته المادية، هذا هو ما تلخصه حكمة العفو عند المقدرة.

ولكن ليس كل عفوٍ محتسب أنه عفوُ مقتدر، ما لم يكتسب قبله المُساء إليه أو المجني عليه، حقه الإنساني، القانوني والأخلاقي، بإثبات وقوع الإساءة أو المظلمة، من خلال اعتراف الجاني وهو بكامل قواه العقلية والنفسية، ودونما أية ضغوط كيفما كانت في مصدرها وموضوعها، أو عن طريق شهود الإثبات وتوثيق الأثر، أو صدور حكم قضائي في صالحه، وبحقه في إيقاع العقوبة على المسيء إليه، الذي لا ينجو من هذا العقاب، لولا أن ينال العفو ممن أساء إليه. هنا يأتي شرط العفو عند المقدرة، لمن أراد أن يعفو ويسامح.

وإن هذا العفو والسماح مشروط هو الآخر، أن يقدّمه المجني عليه، نتيجة واستجابة لإبداء المسيء أو مقترف الجرم، الندم على ما فعل، واستعداده وتقبله بقلب وعقل النادم، جزاء ما اقترف من الذنب أو الخطأ أو الجرم، وأنه مُقِرٌّ أن فعله إنّما جاء، إما نتيجة سوء تقديره لدوافعه، وإما أنه أخطأ الهدف، وإما أنه مُغَرَّرٌ به.

والعفو عند المقدرة، من الأفراد أو الهيئات، عن أفراد أو هيئات آخرين، لا يعدو كونه إسقاطاً للحق الخاص، من مثل إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الفعل الجرم، من مثل إعادة المسروقات أو التعويض عنها، أو التعويض عن الضرر أو دفع الدِيَةِ عن المقتول، ولكن يبقى الحق العام حق المجتمع، يعاقب عليه الجاني، حفاظاً وصوناً لحق المجتمع والأفراد، في الأمن والأمان والحرية والطمأنينة والكرامة.

وهناك العفو الجماعي السياسي عند المقدرة، في حالات التهيئة السياسية والاجتماعية الجماعية، التي تشمل كامل أفراد المجتمع، في حالات ما بعد الصراعات المجتمعية، سواء الإثنية أو العرقية أو المذهبية أو الطائفية أو السياسية، والتي في حالاتها يعفو الجميع عن الجميع، نتيجة اقترافهم جميعاً، بالطريق المباشر أو غير المباشر، أو الظن بما يدعو الآخر إلى إما المقاضاة وإما العفو. والعفو هنا هو الأرض الصلبة التي سيقف عليها الجميع على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، دون أي تمييز، والعفو هنا هو المدعاة لامتنان الجميع للجميع، بما يقود إلى الألفة والتحاب، دون مِنَّةٍ من أحدٍ على أحد.

أما أن يعلن واحدهم عفوه عمن أساء إليه، على مرمى الشيوع، دون تخصيص الأشخاص أو تخصيص الأفعال، والجاني والمسيء ليس مهم لديه، إن عفا عنه مظلومَه أو أرعد وأزبد، أو دونما اعتبار المجني عليه ما إذا كان الظالم أو الجاني، لم يأخذ في الحسبان، حين مارس ظلمه أو قسوته أو جرمه، سواء بالقول أو الفعل، وسيان من قبل أو من بعد، أي لحظة يعود فيها إلى الندم والحساب النفسي الداخلي، على جريرة ما اقترف بحق الآخر، أو ما إذا أفلت الجاني من الاتهام ومن ثم أفلت من العقاب، نتيجة تمييز طائفي أو سياسي، أو أي تمييز كان، فإن العفو هنا ليس بعفوٍ عند المقدرة.

بقدر ما هو إعلان العجز، عن المطالبة بالحق، وهو الاستسلام للأمر الواقع المرير، والتعايش المذل مع الجاني المستمتع بما جناه، وهو ما زال مستعد لتكراره، بل ولأكثر منه من القسوة والتطاول والجناية، غير آبه بالعاجز بعد سماحه وعفوه، ولدينا من أمثلة ذلك ما له علاقة بمقولة «عفا الله عما سلف» وما تلاها.

فلا عفو عند المقدرة معتد به، من ضعيف القوة والحيلة، أو المجبور على إعلانه وإتيانه، ولا عفو معتد به ما لم يأتِ استجابةً لطلب العفو، والوعد بعدم تكرار الجريرة، ولا عفو معتد به في حال استمرار الوضع الحقوقي، على حاله المتعدي على الحقوق الإنسانية، بل لا أقلها للعفو عند المقدرة، من أن تتغير الحال إلى مأمولها، الدستوري والسياسي والحقوقي .

وإنما الحاصل إن إعلانات بعض الأفراد، من الناشطين السياسيين والحقوقيين، في الآونة الأخيرة، من عفوٍ وتسامح عن مقترفي الجرائم السياسية والطائفية وجرائم المسّ بوحدة المجتمع وأمنه، إنما هو بمثل فعل التاجر الذي يبيع بضاعةً ثمينةً، فيَقْدُم عليه مسئول في الدولة، سبق له أن نَهَرَهُ في طلب خدمة عامة، فيرفض للمسئول أن يتقاضى منه ثمنها، والنتيجة أن التاجر لا نال الخدمة ولا نال ثمن بضاعته، والمسئول استحوذ على بضاعتي التاجر الثمينتين مرتين، مرةً كرامته ومرةً ثمن بضاعته.

إقرأ أيضا لـ "يعقوب سيادي"

العدد 4953 - الثلثاء 29 مارس 2016م الموافق 20 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:36 ص

      العفو

      العفو عند المقدرة هي من شيم كبار النفوس وليس من أدناهم ودلالة كبيرة ع التسامح وليس الانتقام والتشفي .

    • زائر 2 | 10:55 م

      صح لسانك يبن الاصوول. علمهم ماهو العفو عند المقدره.

    • زائر 1 | 10:03 م

      هذه المقولة لم تعد في قاموس المسؤلين خاصة إن كان الخصم سياسيا فقد أبرزوا من ينادي بلا عفا الله عما سلف و أشاروا على من يعملون كنواب شعب لتشديد العقوبات حتى على الكلمة و ابرزوا الدولة أمنيا فأصبحت الأولى في عدد السجناء.
      كأن الله أمرهم بذلك و نسوا أن الله يحب التسامح و المتسامح و البشوش و من يسعى في صلاح الاخرين لا في تدميرهم
      إن الله يحب المحسنين و العفو من شيم كبار النفوس

اقرأ ايضاً