العدد 5056 - الأحد 10 يوليو 2016م الموافق 05 شوال 1437هـ

الأسماء المظلومة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل أزيد من ثلاثة أسابيع تحدثنا عن عباس بن فرناس. وكانت مناسبة الحديث هو تقرير في الـ HUFFINGTON POST في نسخته الفرنسية بشأن عشرة من علماء المسلمين، ممن رأى التقرير أنهم أحدثوا ثورات «علمية» و«ثقافية» غيّرت من صورة ومستقبل العالم والبشرية. وقلنا كيف أن ابن فرناس المحتَفَى به اليوم، كان قد رُمِيَ بفساد العقيدة من قِبَل مخالفيه على رغم سِعَة علمه ومُنجَزِه.

في هذا المقال، أستعرض سيرة عالِم ثانٍ من العلماء العشرة، التي ذكرها تقرير الـ HUFFINGTON POST ممن غيَّروا من وجه العالَم بسبب علمهم الغزير في الفلك والرياضيات والفلسفة والطب، لكنه أيضاً تعرَّض لتُهم مماثلة من علماء عاصروه أو تلوا حقبته، وصفته بالزنديق وانحراف العقيدة، وهو الشيخ الرئيس ابن سينا الذي هو «أشْهَر من أن يُذكَر، وفضائله أظْهَر من أن تُسطَّر» كما قيل، حيث كان واسع العلم وتحديداً في الفلسفة والطب. وكان يُتقن الكثير من لغات الشرق وفي نفس الوقت زاهداً مُعرِضاً عن الدنيا. وسأورِد في المقال الكثير من المصادر التي ذكرت شيئاً مما أصابه من تهم في دينه ومنهجه.

أبدأ بما ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام أنه عُمِلَ عزاء لـ «شيخ الشيوخ ابن حَمَّوَيْه بجامع دمشق، فتكلَّم واعظٌ وأنشدَ أبيات ابن سينا: «هبطت إليكَ من المحلّ الأرفع» فأنكر القاضي الجمال المَصْرِيّ على تلك الأبيات من الشعر، وقال: هذه الأبيات قول زِنْديق، وأمره بالنُّزول فتعصَّبَ لَهُ جماعةٌ، فتمَّمَ ونَزَلَ، وسَكَّن المُعتمدُ العصبيّة بعد أن جُذِبت سكاكين».

ومما ذكره ابن الوردي الجد أنه وبعد أن اشتعل الخلاف بين الرازي وابن القدْوَة، وما وُشِيَ على الرازي عند غياث الدين من أن الرجل منسوب إلى التفلسف والزندقة، صعد إلى المنبر قريب من ابن القدوة وقال: «أيها الناس: إنا لا نقول إلاّ ما صَحَّ عندنا عن رسول الله (ص) وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها». وفي لفظ آخر ذكره ابن كثير «وَأَمَّا علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي وما تلبّس به الرازيّ فإنَّا لا نعلمها» إلى آخر الكلام.

والعبرة هنا في النص في لفظة «كفريات» التي نُعِتَ بها الرجل، حيث ومن المهم أن نشير في هذه المفردة إلى ما يتعلق بالموقف من ابن سينا أساساً. وهو أن تكفير الرجل تمّ بالأساس للاعتقاد بأنه كان يذهب إلى إنكار المعاد الجسماني، وأنه يرى أن «المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية» على رغم مصادر أخرى ذكرت أن ابن سينا أشار إلى ما يخالف ذلك وهو أن المعاد «لا سبيل إلى إثباته إلاّ من طرق الشريعة وتصديق خبر النبوة» إلى آخر النص. وهو ما يجعل الأمر كما يجري اليوم من حرب شائعات تقوم بين الأطراف المتصارعة على أثير الخلاف الديني.

ليس ذلك فحسب، بل إن البعض ممن حاول الدفاع عن ابن سينا دافع عنه من منطلق أنه استُتِيْب فتاب في نهاية عمره، وكأنه منحرف العقيدة أو صاحب هوى، على رغم أن الثابت عنه أنه كان زاهداً معرضاً عن الدنيا. وقد رُوِيَ عن ابْن خلكان أن «ابن سينا لما آيس من العافية ترك المداواة واغتسل وتابَ وَتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وَأعْتق مماليكه وجعل يختم فِي كل ثلاثة أيام ختمة ثم مات بهمذان يوم الجمعة من رمضان». ولنا أن نتأمل في هذا جيداً!

وجاء في مفيد العلوم ومبيد الهموم لأبي بكر الخُوَارِزْمي «افترقت المجوس على سبعمئة فرقة والباطنية شيء منهم والكلب والخنزير يسكنان بلاد الإسلام والباطني لا يقيم بين المسلمين لخبث عقائدهم»، إلى أن يصف ابن سينا بأنه زنديق صعد قلعة ألموت بعد أن استعان بتاج الملك الزنديق كما يصفه. ولا يُعلَم مدى دقة نسب هذا الوصف للخُوَارِزْمي تجاه ابن سينا نظراً إلى ابتعاد الوقائع عن بعضها، وهو ما يثبّت حجم الجدل الذي دار في تلك الفترة، أو جعل الأقوال في أفواه الرجال عنوة.

ومما يُدلّ على ذلك هو ما ذكره شمس الدين الذهبي عندما يصف أحوال أحد الأزمنة فيقول: «ثم كان في هذا الزمان المتأخّر رجلٌ من الفلاسفة يُعرف بابن سينا، ملأ الدنيا تواليف في علوم الفلسفة، وهو فيها إمامٌ كبير، وقد أدّاه قُوتُه في الفلسفة إلى أن حاول ردّ أُصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطّف جَهْدَه حتى تم له ما لم يتم لغيره. وقد رأيت جملاً من دواوينه، ووجدت هذا الغزالي يعوّل عليه في أكثر ما يشير إليه من علوم الفلسفة». وهو أمر جدير بالتأمل حين يشير إلى موقف الغزالي الإيجابي من ابن سينا في حين أن ما يُذكر في مصادر أخرى هو أن الغزالي كان أشدّ الناس على الرجل.

في المحصلة، تمنحنا تلك النصوص وتلك المواقف مزيداً من الوضوح لما كان يجري في تلك الأزمنة، تجاه الكثير من العلماء والموقف من النشاط العلمي «الجديد»، وهو ما يجترّه حاضرنا من ماضيه ولغته. وهذه هي مأساتنا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5056 - الأحد 10 يوليو 2016م الموافق 05 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:58 ص

      للعلم

      ابن رشد ليس عربي بل أمازيغي، وهذا شأن أكثر العلماء في الحضارة "العربية الإسلامية"

    • زائر 2 | 3:34 ص

      سيد الفلاسفة و العلماء العرب هو ابن رشد

    • زائر 1 | 12:31 ص

      كأنه كل عالم رياضيات او اي مجال أخر يجب ان يكون سليم العقيدة ........... شي غريب

    • زائر 4 زائر 1 | 12:16 م

      اتفق معك ليس كل عالم رياضيات و فيزياء او كيمياء خلاص معناتها انه سليم العقيدة و الا لكان نيوتن صاحب أحسن عقيدة

اقرأ ايضاً