العدد 507 - الأحد 25 يناير 2004م الموافق 02 ذي الحجة 1424هـ

المأزق العراقي المزدوج من الاحتلال صناعة أميركية

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

كثيرة هي الأوساط الشعبية والسياسية العراقية التي ترفض الاحتلال الاميركي البريطاني، وتطالب من أجل رحيله، لكن معظم هذه الأوساط تدرك بأن استقرار العراق أصبح يعتمد اعتمادا كبيرا على الولايات المتحدة، وأن فرص الحرب الأهلية والفوضى بيدها أيضا، وبالتالي فإن هذه الأوساط تخشى ان يؤدي زوال الاحتلال الى نشوب حرب أهلية وتقسيم البلاد. وهذا ما تؤكده استطلاعات الرأي العام، ويرى 80 في المئة من العراقيين ان هدف أعمال المقاومة المسلحة خلق حال عدم استقرار في البلد. ويشير أحدث الاستطلاعات أن 75 في المئة من العراقيين يشعرون بعدم الأمن فيما إذا قررت قوات التحالف مغادرة العراق فورا.

المأزق المزدوج الذي يتعاطى عبره العراقيون مع قوات الاحتلال، ينعكس في الجدل القائم بين العراقيين وداخل النخب السياسية والثقافية فيما إذا كانت الولايات المتحدة خاضت الحرب دون برنامج لمرحلة ما بعد الحرب، او ببرنامج قام على حسابات خاطئة، او ببرنامج تعمد إحداث الفوضى وعدم الاستقرار.

راعي الحركة الملكية الدستورية وراعي مؤتمر العراق الشريف علي بن الحسين يرى مثل كثير من الزعماء السياسيين العراقيين الجدد العائدين بعد الحرب «ان سلطة التحالف ارتكبت الكثير من الأخطاء بعد الحرب نتيجة حسابات وتصورات مغلوطة لعدم وجود ادراك مسبق لما يمكن ان يجري بعدها». غير ان هذه الرؤية يعارضها طارق العادلي مقرر مؤتمر العراق (المنضوي تحت رعاية الشريف علي) ويجد «ان أميركا احتلت العراق وفق برنامج تفصيلي مدروس وضع لكل شيء حسابه، وان ما يجري من فوضى مسألة مطلوبة ومخطط لها مسبقا، فالعراق يجب أن يكون كما في الصورة المسبقة النمطية صحراء مليئة بالنفط، وتخلو من كل وسائل الحضارة ومنتجاتها وأدواتها كما هو في الصورة الاستشراقية التاريخية للمستعمرين الذي فتحوا أراض وبلادا فقيرة ومعدمة تفضّل على أهلها الاستعمار بالتعليم والمدارس والمطارات وسكة الحديد والطرق»!

ويتفق مع هذه الرؤية الكثير من الأوساط الأكاديمية والجامعية العراقية باختلاف مواقفهم من النظام السابق، ويعتقد استاذ التاريخ المعاصر في الجامعة المستنصرية عبدالحميد عبدالله «ان العراق يبدو اليوم بعد تسعة أشهر من الاحتلال يتجه نحو كارثة متعمدة صنعت بوعي مسبق وتخطيط عبقري، ولكنها عبقرية الفشل».

ويقول أستاذ الاستراتيجيات الدولية في جامعة النهرين منعم ضاحي «إذا استبعدنا فرضية ان ما يجري مخطط له كيف إذا نفسر عمليات التدمير المبرمجة التي جرت؟ ولماذا الاتصالات والكهرباء والطرق والجسور، وأبراج الكهرباء والوزارات والمعسكرات والأجهزة والآليات التي نهبت ودمرت بعد الاحتلال تستمر على حالها؟».

والحقيقة الواضحة لمعظم العراقيين انه لم يحدث تبدل بعد تسعة أشهر من الاحتلال، فبغداد كغيرها من المدن تغطي الأوساخ معظم شوارعها فيما المرافق العامة تزداد خرابا واهمالا وترهلا. والجسور التي دمرت أعيد اثنان منها فقط بعد أكثر من ستة أشهر من الاحتلال باحتفال مهيب رعاه الحاكم الأميركي بول بريمر، وجاء هذان الجسران على هيئة جسر حديد مؤقت من الجسور التي تبنيها الجيوش لمواجهة الانهيارات أو للعمليات العسكرية ويمكن بصعوبة مرور سيارة واحدة من كل اتجاه.

هذه الصورة القائمة تغذي لدى الناس الادراك بأن ما جرى ويجري كارثة مخططة؛ ويتساءل المهندس الزراعي عامر «ترى ألم يرى الاميركيون شبكة الطرق الحديثة والجسور المهيبة التي كانت موجودة في بغداد؟ ثم لماذا توقفت محطات تكرير النفط، وتستورد مشتقات النفط من الدول المحيطة بالعراق، وتحتاج السيارات للانتظار تسع ساعات أو أكثر للتزود بالوقود؟».

هذه الشكوك والأسئلة تسهل على الناس قبول الشائعات دون تدقيق، من قبيل شائعة تلقى رواجا واسعا بين الناس وتبنتها بعض الصحف العراقية ووسائل إعلام عربية، هي ان نحو ثلاثة آلاف عراقي كانوا مقيمين في الخارج تم تجنيدهم من قبل الموساد الاسرائيلي وتدريبهم في «إسرائيل» للقيام بأعمال اغتيالات لعلماء عراقيين وأطباء بهدف نشر الرعب والفوضى في البلاد وإفراغها من كوادرها العلمية والفكرية وكفاءاتها المتخصصة عبر دفعها الى الهجرة.

طبعا مثل هذه الشائعات تثبت الادراك بأن ما يجري من فوضى يتم تصنيعها أميركيا، إذ بعد حل الجيش والأمن ومؤسسات الدولة وملاحقة قادتها وكوادرها الرئيسيين بحجة استئصال البعث، جرد العراق من كل مقومات وحدته والعناصر التي كانت تجمع فئات الشعب ومن الخبرة الإدارية والدفاعية والتعليمية، ويجري على نحو مقصود رد العراق إلى المكونات البدائية التي أمضت الدولة العراقية ثمانين سنة في تطويرها، فالعراق يقسم برعاية أميركية إلى عرب وأكراد وتركمان وشيعة وسنة، ويجري التعامل مع كل فئة من السكان مستقلة عن العراق وعن الفئات الأخرى، فالإدارة الأميركية لا ترى بلدا اسمه العراق، ولكنها ترى مناطق وفئات ومصالح تعزلها عن بعضها مكاسب تتنافسها النخب والمجموعات.

وتبعا لهذه القناعة يفسر إصرار التحالف على تشكيل مجلس الحكم وفق المحاصصة الطائفية العرقية كما يعاد بناء الجيش الجديد على ذات هذه الأسس، لجعل مصير البلد عرضة للمصالح الفئوية والمذهبية والعرقية على اساس من التنافس والتنازع، الذي يدفع باتجاه تأليب القوى والفئات على بعضها ووضعها في حال توجس من بعضها، ولتلجأ جميعها إلى الإدارة الأميركية لتحتمي من بعضها بعضا.

وعلى أساس هذا التحليل تسود فرضية استهداف السنة العرب على نحو افتعالي مقصود لخلق حال من الخوف والنزاع. بل واعتبار ان كثيرا من عمليات التفجير والتخريب التي تجري في العراق لا يمكن ردها إلى مقاومة تهدف إلى طرد الاحتلال بل الى مقاومة جاءت بدواعٍ أميركية لخدمة المخطط المبرمج الذي محوره تصنيع كارثة تؤسس لمرحلة وثقافة جديدة وتعيد صوغ الطابع القومي للمجتمع بما يجعله مندمجا في السياسات الأميركية الشرق أوسطية، وبما يسمح لـ «إسرائيل» الحصول على النفط العراقي بكلفة تحقق وفرا في فاتورتها النفطية بنسبة 25 في المئة

العدد 507 - الأحد 25 يناير 2004م الموافق 02 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً