العدد 5100 - الثلثاء 23 أغسطس 2016م الموافق 20 ذي القعدة 1437هـ

دور صندوق النقد الدولي في الشأن الداخلي

عبدالله جناحي comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

«السياسة هي الشكل المكثف للاقتصاد» مقولة لأحد المفكرين حيث أكدت غالبية النزاعات السياسية صحتها، سواء النزاعات الكونية أو الإقليمية أو المحلية، وحيث أثبتت التجارب أنها وراء تلك النزاعات والصراعات السياسية والعسكرية المنافسة، واحتكار الثروات والهيمنة على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية.

وأصحاب النفوذ الاقتصادي في تلك الدول المتأزمة اقتصاديّاً، ومن أجل الحصول على المزيد من فرص الربح الوفير لا يترددون في إشعال فتن سياسية وعسكرية وطائفية ومذهبية وقبلية لإلهاء الشعب عن خطط تمرير قوانين ومشاريع وبرامج اقتصادية يعون تماماً أنها ستواجه برفض جماهيري كبير بل وثورات شعبية أيضاً.

حدث ذلك على سبيل المثال في أيسلندا العام 2008م، لحظة انهيار الجهاز المصرفي، حيث تدخل صندوق النقد الدولي الذي بسبب إجراءاته تحولت أيسلندا من أغنى بلدان العالم إلى دولة منهارة تقريباً (في العام 2007م بلغ متوسط دخل الفرد في أيسلندا 70 ألف دولار أميركي، أي ما يعادل 6.1 أضعاف متوسط الفرد في الولايات المتحدة الأميركية) وعندما تأكد لأصحاب النفوذ الاقتصادي والسياسي أن الانهيار قادم بدأوا يتخذون كل ما يلزم لاستغلال هذه الفرصة لتحقيق المزيد من الأرباح لهم، بدلاً من إنقاذ شعبهم، ولكن كيف؟

يقدم لنا كتاب «صندوق النقد الدولي»، قوة عظمى في الساحة العالمية لمؤلفه أرنست فولف تفاصيل اللعبة المشتركة بين صندوق النقد الدولي والحكومة الأيسلندية.

كانوا يعرفون أن المواطنين غير مستعدين للسكوت عن تراجع مستوياتهم المعيشية بنحو مفاجئ وعنيف، وأنهم سيقاومون أي إجراء يضر بهم بشدة وإصرار، ولأن وسائل الإعلام العالمية نقلت وعلى مدار الساعة أخبار نقمة المواطنين واحتجاجاتهم العارمة على حكومتهم، ومن أجل منع انتقال الأزمة والاحتجاجات والتظاهرات إلى بلدان أخرى، وبهدف التخفيف من شدة الاحتجاجات والتظاهرات، لجأ صندوق النقد الدولي ومعه الحكومة الأيسلندية إلى وسيلة قد تم تطبيقها بنجاح في أميركا اللاتينية، وهي تضليل الرأي العام من خلال «اصطناع» نزاع لم يكن له وجود حقيقي أصلاً!! حيث بدأت الحكومة على صب اللعنات على الصندوق أمام الرأي العام فيما كرس أعضاؤها جهودهم لتعزيز الانطباع بأن الحكومة تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى الحيلولة دون تدخل الصندوق في شئون البلاد، وفي المقابل كانت الحكومة تنسق خطواتها مع الصندوق خلف الكواليس وتنفذ خطة الصندوق بكل حذافيرها، وبذلك تمكن الصندوق من انتزاع قانون تعويض المودعين الأجانب، وتخلص المتورطون من أية معاقبة قانونية، وأسقطت المحكمة الاتهامات الموجهة إلى رئيس الوزراء غايرهارده، وبرأت ساحته منها، في حين أصدرت عقوبات خفيفة على قلة من مسئولي الصف الثاني أو الثالث، ومن لم يحصل على حكم «مع وقف التنفيذ» أطلق سراحه قبل انتهاء مدة سجنه، وجميع الماثلين أمام القضاء لم يفرض عليهم تسديد شيء من المبالغ الهائلة التي كسبوها في حقبة الازدهار الاقتصادي.

كان التضليل الإعلامي للرأي العام مستمرّاً، وأن الحكومة الأيسلندية قادرة على الخروج من الأزمة «بقواها الذاتية»، ولكن في الواقع كانت الحكومة ترضخ لشروط صندوق النقد الدولي. ففي أعقاب الانهيار أعلن الصندوق موافقته على منح الحكومة قرضاً قيمته 2.1 مليار دولار أميركي مع شرط أن يدفع القرض على تسع دفعات، وأن يكون الوضع الاقتصادي تحت الاختبار والرقابة بشكل منتظم، وقبل حصول أيسلندا على الدفعة الأولى من القرض اشترط الصندوق أن تسديد هذ الدفعة يتوقف على اعتراف الحكومة بكل الديون الأجنبية والتزامها بنحو لا رجعة فيه بتسديد هذه الديون أولاً، وربط الصندوق دفع القرض بأن تعزز الحكومة جهودها لمنع أي إجراءات مثيرة للفزع في صفوف المستثمرين الأجانب، كما تم فرض شروط صارمة لتبني معدلات ضريبية عالية نسبيّاً، وخفض معتبر في النفقات الحكومية المخصصة لتمويل المستشفيات والمدارس ورياض الأطفال، وتدخل سافر وقوي في نظامٍ حتى ذلك الحين كان من أفضل أنظمة الرعاية الاجتماعية في أوروبا.

كل هذه الإجراءات تحمل دافعو الضرائب الأيسلنديون أعباء الخسائر المتحققة، وكذلك الثلاثة مليارات يورو الضائعة بفعل تورط صناديق المعاشات التقاعدية المحلية بمضاربة فاشلة. وتسبب من جراء ذلك أن زاد التضخم وخسر الكثير من المواطنين مدخراتهم، وارتفع معدل البطالة من 1 في المئة إلى 9 في المئة، وضغط كبير على المستوى العام للأجور، وارتفاع متوسط مديونية ملاك المنازل السكنية، ونحو 8 آلاف عامل أيسلندي كانوا يتمتعون بكفاءات مهنية جيدة قرروا الهجرة إلى بلدان أخرى، وعجز 1 في المئة من أبناء الشعب عن تلبية الحد الأدنى من متطلبات العيش فاضطر إلى تسول الطعام من المطابخ الضخمة المدارة من قبل منظمة مسيحية خيرية اسمها «جيش الخلاص»، وأمام فرض رسوم في النظام التعليمي والصحي أدى إلى تدهور نوعية الحياة بشكل واضح.

وملخص القول إن إجراءات صندوق النقد الدولي حولت أيسلندا، الدولة التي كانت تعتبر واحدة من الدول ذات الأعلى مستوى معيشي في العالم، إلى دولة ذات مستوى معيشي منخفض، وأُكرهت جيلها القادم على تسديد ديون ما كان مسئولاً عن تراكمها في أغلب الأحيان.

هناك بالطبع عشرات من التجارب الدولية التي تكشف مدى تدخل الصندوق الواضح في الشأن الداخلي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، بل وفرضه وزراء محددين على حكومات تلك الدول كما حدث في جنوب إفريقيا، والسماح لإشعال فتن وحروب تنتج عنها فيما بعد رضوخ هذه الدول لشروط هذا الصندوق، كما حدث في معظم دول أوروبا الشرقية لحظة وبعد سقوط المعسكر الاشتراكي. وحول هذا الموضوع المقال التالي.

إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"

العدد 5100 - الثلثاء 23 أغسطس 2016م الموافق 20 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:08 ص

      نتفهم تعليق الكاتب على الاجراءات التي قامت بها الحكومة الايسلندية كنتيجة خضوعها لاملاءات صندوق النقد. ولكن الم يكن ذلك بسسبب فشل سياسات الحكومة الايسلندية والتي ادت الى انهيار اقتصادي كبير؟، ثم ان الكاتب لم يوضح ماهية الاجراءات او الحلول والتي كان من المفترض اتباعها لتجنب الخضوع لصندوق النقد.

    • زائر 3 | 1:36 ص

      لحظة

      وهل سمعت قط عن دولة أسقطت قروض مواطنيها ! وأقصد بهذا الدولة بمفهومها العام .

    • زائر 2 | 1:23 ص

      بعض الأشياء يتم تطبيقها عندنا حاليا...والبعض الآخر سيتم تطبيقه بعد ذلك...ولكن أحمدو ربكم...أحنا أحسن من موزامبيق وجزر الواق واق...والله لا يغير علينا...(إلا طبعا التغييرات أللي يقترحها صندوق النقد أو البنك الدولي)...

    • زائر 1 | 12:37 ص

      الجماعة عندنه مستغلين الظروف الأقتصادية في العالم ومتقشفين علينه لازيادات في الرواتب ولامنح ماليه ولاإسقاط قروض خلها على الله

اقرأ ايضاً