العدد 511 - الخميس 29 يناير 2004م الموافق 06 ذي الحجة 1424هـ

هل هي أزمة خطاب عربي أم أزمة استيعاب أوروبي؟

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

قال الرئيس الكوبي فيدل كاسترو في خطابه الذي ألقاه في 26 يوليو/ تموز من العام 2002: (لقد أثبت التاريخ بأنه ليس من شيء يستطيع إلحاق الهزيمة بالشعب في مساعيه الكفاحية النبيلة، وأن الأسلحة المادية ليست أقوى من الأفكار).

مثل هذا الكلام يؤكده التاريخ منذ مجيء الإسلام على يد نبي هذه الأمة محمد (ص) فقد انتصر الإسلام على كل القبائل المشركة التي حاربته لأنه كان يحمل فكرا وعقيدة.

لقد انهزم الفرنسيون أمام جيش التحرير الجزائري لأنه كان يحمل فكرا وعقيدة، وانتصر الفيتناميون على الولايات المتحدة الأميركية لأنهم كانوا يحملون فكرا وعقيدة.

والتاريخ سيثبت على رغم الطغيان الإسرائيلي وعلى رغم التآمر الأميركي الأوروبي أن الشعب الفلسطيني سينتصر لأنه يحمل فكرا وعقيدة.

إن جميع الشعوب التي ناضلت من أجل حريتها لم يذكر التاريخ أنها انهزمت سواء طالت المعركة وكثرت التضحيات أم قلت إلا وتُوجت نضالاتها بالانتصار مهما كان العدو جبارا ويملك من الأسلحة ما يملك، وها هم الروس في مأزق أمام هجمات الشيشان. هذا هو منطق التاريخ، فقوة الأفكار تهزم قوة المادة كما قال كاسترو، وقوة المنطق تغلب منطق القوة كما قال الرئيس اللبناني إميل لحود.

إن هناك بعض المثقفين الذين بلغوا مرحلة اليأس ويبحثون عن مخرج وتفسير لهزائم المراحل الأولى في كفاح الشعب الفلسطيني فيصرون على أن خطابنا الإعلامي وراء هذه الهزيمة، إنما يفعلون ذلك لأنهم كما يبدو لا يؤمنون بأن التحرير والكفاح والنضال بحاجة إلى نَفَس طويل، فالعبرة بالنتيجة كما يقولون.

المثقفون الإنهزاميون من أصحاب النَفَس القصير يصرون أن وراء هزائمنا الخطاب العربي عموما والخطاب الإعلامي خصوصا، إذ أن هذا الخطاب متخلف بحسب ظنهم، وهو خطاب لا يدركه العقل الأوروبي ولا يستوعبه، وهنا تكمن الأزمة، فهل هي أزمة خطاب عربي أم أزمة استيعاب أوروبي؟

هل كُتّابنا وسياسيّونا ومثقفونا لا يعرفون كيف يوصلون الكلمة إلى سمع الأوروبيين، أم سمع الأوروبيين ثقيل لا يحاول أن يستوعب كل ما يأتيه من العرب؟

لقد غالطنا أنفسنا كثيرا وجلدنا ذاتنا كثيرا وصرنا نلقي باللوم على أنفسنا بأن خطابنا لا يتناسب مع العقلية الأوروبية لكن الأيام صارت تكشف أن الأوروبيين هم الذين يسدون آذانهم عن سماع الحقيقة وقضايا التحرير الوطني لا حاجة لها إلى خطاب ومذكرات تفسيرية، فالذي يفتح صدره وعقله لاستيعاب كل ما هو منطقي يدرك أن الحكومة الإسرائيلية وراء هذا الإجرام فهي التي ترسل بجيشها وطائراتها ودباباتها لقصف مدن وقرى ومخيمات الفلسطينيين وهي التي ترفض وجود مراقبين دوليين لمراقبة التجاوزات وهي التي تعتقل المدنيين وهي التي تقيم الجدار وهي التي تشجع على قيام المستوطنات، وهي التي تتحدى الأمم المتحدة، فهل بعد هذا يحتاج المعتدى عليه في أرضه والذي يقاوم الاحتلال أن يثبت أنه بريء وأن شارون والجيش الإسرائيلي هو المعتدي؟

ولو أراد الأوروبيون استيعاب هذه القضية فهم غير محتاجين إلى ذكاء خارق وعبقرية لاستيعاب ذلك وخطاب إعلامي من نوع خاص، ولو كان هذا الوضع حدث قبل نصف قرن لقلنا أنه من المحتمل، أما اليوم بكل ما يجري على الأرض وتنقله فضائيات ومراسلون وصور تلفزيونية فالأمر واضح حتى للأصم والأعمى ومع ذلك نتفاجأ بأن الولايات المتحدة وأوروبا قد جمدت حسابات هذه الحركات المقاومة للمحتل الإسرائيلي بينما تواصل تعاونها مع «إسرائيل».

فالمأزق هنا ليس مأزق خطاب بل مأزق استيعاب، فهل الأنظمة العربية لا تستوعب خطاب الشعوب العربية وهي تطالب بحقوقها في الديمقراطية والتوزيع العادل للدخل واحترام كرامة الأمة أو أنها لا تريد أن تستوعب هذا الخطاب فتسد آذانها وتفتح مزيدا من السجون وتسلم أجهزة الأمن لأكثر الجنرالات دموية وقمعا للشعوب؟


أزمة خطاب أم استيعاب؟

لكن القضية كما يبدو أبعد من قضية الخطاب العربي، إنها قضية طغيان أوروبي واحتقار للإنسان العربي ومطالبه التي أجَّلها أكثر من قرن ليأتي اليوم ويستجدي من أنظمته حقوقه المشروعة.

إنه احتقار للأنظمة العربية التي لم تستطع أن تستغل ثرواتها وإمكاناتها في فرض احترامها على الولايات المتحدة وأوروبا، وفي نفس الوقت احترام لعناصر استطاعت أن تخطط وتبني دولة متقدمة في الصناعة والتكنولوجيا خلال مرحلة لم تتعدى النصف قرن بكثير، فلا مكان للضعفاء على وجه الأرض.

إن الأنظمة العربية التي لم تتمكن خلال أكثر من نصف قرن من توحيد خطابها وتوحيد جهودها وتوحيد قواها وصارت كل دولة منها تعزف على وتر خاص مع إدراكها بأنها في زمن التكتلات الاقتصادية والسياسية إلا أنها مع ذلك كانت تبايع في الخفاء وتعمل في السر خلال تلك المرحلة الطويلة مع أعداء هذه الأمة، فالنظام الأجير والقيادة المُسَيّرة لا وزن لها في نظر السيد، فهو في النهاية عبد يطيع أوامر سيده... ومن هنا يأتي تجاهل الأوروبيين لتوسلات هذه الأنظمة لأنها تأتي من أناس ضعاف، فالضعاف يجب اجتثاثهم من الوجود حسب نظرية مكيافيللي التي تتبناها الأنظمة الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة.

فالأزمة لا تكمن في الخطاب العربي بقدر ما تكمن في الضعف العربي، كما أن أزمة الأنظمة العربية لا تكمن في عدم استيعابها وعدم إدراكها للمطالب الشعبية العربية العادلة لكنها تكمن في ضعف شعوبها ومثقفيها الذين صبروا دون أن يقدموا التضحيات المطلوبة في مرحلة كان يمكن فيها التغيير قبل أن تقوى شوكتها وتتجذر وقبل أن يصبح كل نظام عربي يربط كل مقدرات شعبه بهذه الدول، والمأزق الآخر يكمن في بروز أنظمة مستبدة ظهرت باسم القومية والعقائدية وتبعتها شعوب وانساقت خلفها كما ينساق القطيع خلف الراعي فأضاعت شعوبها بل وأمتها وتسببت في إضعافها.

إن أزمتنا لا تكمن في مجرد الخطاب العربي الذي يصر الكثير من المحللين السياسيين على أنه وراء عزوف أوروبا والولايات المتحدة عن استيعابه بل تكمن في أمور أخرى، ولا يمكن لأمتنا الخروج من هذا المأزق وجعل الرأي العام الأوروبي والأميركي يستوعب خطابه إلا عندما يكون صاحب الخطاب قويا ومحترما، ولن يأتي هذا إلا بتوحيد خطاب المثقف العربي وتوحيد جهده وبرامجه وفرضه على كل هذه الأنظمة بكل ما يحتاج من تضحيات وبكل ما يحتاج من ثمن مهما بلغ إذا أريد لهذه الأمة أن تستعيد كرامتها.

أما الطريق الأقصر فهو على رغم تأخره، إلا أنه يكمن في أن تحاول القيادات العربية أن تستوعب خطاب شعوبها بفتح أبواب السجون لإطلاق سراح المعارضة، وإدراك أنه ليس أمامها حل آخر إلا المصالحة مع شعوبها بكل ما فيها من مخاطر وخسائر لأرباحها واضطرارها إلى إيقاف نهب المال العام وإيقاف الفساد الإداري والمالي والأخلاقي.

ولا أظن أن هذه المصالحة مهما بلغت نتائجها فهي لن تبلغ درجة السقوط، وهناك نماذج عربية برزت فقامت بالمصالحة مع شعوبها فكانت وراء تقويتها لا إضعافها، فالنظام الكويتي لم يكن ليصمد أمام العدوان العراقي لو لا التعاطف والتفاهم الشعبي مع القيادة.

والوضع في البحرين لم يكن ليستقر بعد أن بلغ درجة الاشتعال في مرحلة ما لولا حكمة ملكها الذي قام بإصلاحاته، وسواء اعترض بعض الجمعيات السياسية على شكل هذه الإصلاحات لأن طموحها أكبر أم لم تقتنع إلا أنه في النهاية استطاع بهذه المسارات الإصلاحية أن يسحب الفتيل من القنبلة التي كادت تنفجر واتفق الجميع على الاعتراف بأن إصلاحات حدثت لا يمكن أن يغمض الإنسان عنها حتى وإن كان يأمل فيما هو أكبر خاصة من ملك طموح مثله درس في أوروبا واستوعب حلاوة الديمقراطية وآثارها الإيجابية في حل الأزمات. إذن الحل في التعجيل بمصالحة وطنية مهما بلغت تضحيات هذه الأنظمة بمكاسبها وانكماش يدها الطويلة التي امتدت لعقود طويلة ليس للمال العام فقط بل لدساتير شعوبها وحرياتها وديمقراطياتها.

وكما قال الكاتب يوسف الجندي: (إن هناك سببان لتخلفنا وصعود السلفية وهما:

السبب الأول هو الاستبداد السائد في أنظمة الحكم في بلداننا بمختلف مستوياته وغياب الحرية وتغييبها، ذلك أن سلطات الاستبداد أيا كان نوعها إنما تغلق الطريق أمام التطور وأمام الحرية الفردية والعامة وتستأثر بالقرار وبالشأن العام وبالسلطة، بعضها يحول كل البلاد إلى ما يشبه الشركة الخاصة ويعين شخصه وأصحابه أعضاء حصريين في مجلس إدارتها، وفي ظل وطأة هذا الاستبداد تفتقد الشروط لإنتاج تطور وتقدم حقيقيين وتفتقد الشروط لحل مشاكل الناس أو للأمل بحلها وتحقيق السعادة لهم بمستوياتها الواقعية.

السبب الثاني هو فشل المشاريع التغييرية الكبرى ولا سيما تلك المرتبطة بالديمقراطية وهذا الفشل هو الذي يفسح المجال لبروز ظاهرات كانت تراجعت في الفترة السابقة).

من هنا نجد أن الخطاب العربي في غياب الديمقراطية وبروز الاستبداد وعزلة الأنظمة العربية وراء عدم محاولة أوروبا استيعاب هذا الخطاب وليس في عدم وضوح هذا الخطاب ولكن كما قال كاسترو: ( فإن التاريخ قد أثبت بأنه ليس من شيء يستطيع إلحاق الهزيمة بالشعب في مساعيه الكفاحية النبيلة، وأن الأسلحة المادية ليست أقوى من الأفكار) والشعب الفلسطيني سينتصر لأنه قوي بأفكاره وعقيدته

العدد 511 - الخميس 29 يناير 2004م الموافق 06 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً