العدد 5157 - الأربعاء 19 أكتوبر 2016م الموافق 18 محرم 1438هـ

العقل العربي وثلَّاجة التاريخ

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

العقل العربي يرفض أن يُغادر ثلَّاجة التاريخ؛ فهو لن يكون صالحاً للاستعمال في الثلَّاجة ولا خارجها. عقل مخمور بانتصارات ولَّتْ، ولا يريد تذكُّر الهزائم التي خلَّفها وراءه كالفطْر، والهزائم التي مازال مستميتاً في صناعتها.

هل هو العقل العربي حقاً؛ أم الذين هم أوصياء عليه؟ أولئك الذين رسموا له متى وكيف يفكِّر؟ ثم ما هي مجالات وحدود تفكيره؟ أن يكون مُرتهناً للذين يُمْلون عليه متى يفكِّر، وحدود ذلك التفكير.

العقل الذي لا يُسهم في رسْم وتطبيق سياسات بلده، بما يُعلي شأنه، ويحرز له مواقع السبق، هو في ثلَّاجة غير موصولة بالكهرباء أساساً. عقل معطَّل في ثلَّاجة معطَّلة. العقل الذي لا خيارات مصيرية لديه في فضائه الذي ينتمي إليه، كأنه وُجد للفرْجة والانشغال بما سيأكل ويشرب ويلبس ويسكن ويعمل في حدود وأُطُر مرسومة لا مكان فيها للإبداع والابتكار؛ بل للارتهان. مثل ذلك العقل يُراد له أن يكون مشغولاً بكل ذلك، وفي الحدود المرسومة له كي لا يشكِّل عبئاً ومُساءلة واستجواباً واحتجاجاً على خلل هنا، وتجاوز هناك، أو فساد هنالك.

وإذا آمنَّا بمقولة الشاعر السوري الراحل نزار قباني بأن «العقل مُعارض أبدي»، من حيث عدم ثباته في الأفكار وتحولاته المستمرة، فلن نقف على تلك الميِّزة للعقل العربي، وضمن الظروف التي تزداد تعقيداً ومصادرة، بالاستسلام والامتثال والنمطية والأسوار التي يُحاط بها، أو تلك التي يُحيط نفسه بها، وليس أقلّها أن المحفِّزات لنهوض وإبداع وابتكار ذلك العقل غائبة ومُغيَّبة ورهن الرصْد.

المأساة أن الذين يقررون مصائر كثير من شعوبهم لا حضور للعقل عندهم، بقدر ما هو حضور قيم وثارات وأخلاق جاهلية، في الدرجات الأدنى منها، فمن قال إن الجاهليين لا قيم معتبرة لديهم وسامية؟

والمأساة أن الذين تُسلَّم لهم دفة أخذ القرار وإمضائه، ممن لا قيمة للعقل عندهم، باستثناء «العقول» التي يديرون بها «السيمفونية» المضطربة في الحياة المضطربة، والقيمة التي تتجلَّى بإسراف في المكانات التي تحظى بها التحزُّبات والولاءات والتكتلات، مادامت هي الأخرى خارج كادر العقل وعالمه، والأثر الذي يمكن أن يتمخَّض عنه.

يظل العقل في نهاية المطاف منْفذاً للحلول، وخروجاً من المأزق والمنعطفات الخطيرة، وترتيباً للحياة، وما لم يقم بذلك الدور الرئيسي لوجوده في جمجمة أي واحد منا، فلا فضل له على ما تحتويه جماجم بهائم يتجاوز حجم دماغها ما يحمله في تلك الجمجمة التي تظل خاوية من قيمتها وأثرها وقدرتها على القفز بصاحبها من المجهول إلى المعلوم، أو ما يقترب منه، ومن الهاوية إلى القمة، أو ما ينأى به عن الهاوية، ومن الاستلاب إلى السيطرة على شئونه ومقدَّراته وخياراته، وتحديد دوره ومركزه في هذا العالم. العالم الذي يكاد لا يشعر بوجوده أساساً.

يكشف انتهاء القدرة والفاعلية والأثر عن غياب العقل. ذلك واحد من المنبِّهات، ويكشف النقيض عن يقظته وقدرته وفاعليته وأثره. تلك التفاصيل الغائبة والمنعدمة في كثير من الأحيان، مؤشر لا يمكن التلاعب به في ادِّعاء وجود عقل حُر.

من قال إن العقول تنبت من الغياب؟ ومن قال إنها تطلع من إحكام المنافذ وصولاً إلى تسوير الفضاء؟

نحتاج إلى مراجعة وصحوة تنسف ما يُتَوهَّم بأنه «عقل»؛ عقل يبزغ منه فعل يعيد ترتيب هذا الخراب كي نشعر بمعنى الوجود... معنى العقل.

وليس من قبيل العبث والجنون ما قاله أحد كبار عقول البشر على مدى التاريخ، أفلاطون: «نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكِّر، ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكِّر، وعبيد إذا لم نجرؤ أن نفكِّر».

أين نحن من تلك الوصفة؟ مازالت عقولنا في الثلاجة. الثلَّاجة المعطوبة!

سَلُوا الخراب الممتدَّ من الماء إلى اليابسة العربية، يُخْبِركم أين هو العقل!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5157 - الأربعاء 19 أكتوبر 2016م الموافق 18 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 10:56 ص

      السلام عليكم
      أستاذ جعفر
      الله يهديك بس
      وجود العقول المُفكرة يُشكل خطر على الامن القومي والاجتماعي ههههههه
      دول العالم النامي تجعل من انفسها وصية على العقول للأسف حتى تحافظ على استقرارها والا وش رايك ولد عمي

    • زائر 4 | 9:58 ص

      اصبح جيل شيشه ومقاهي

    • زائر 3 | 6:20 ص

      شتان بين دول تقدس العلم والعمل وبين دول تقدس الجهل والتخلف
      سيبقى العقل العربي معطوبا في ثلاجه فصل عنها التيار الكهربائي بإراده عربيه لتتعفن الأفكار وينشأ جيل يرث الكبت والخوف والحرمان في بيئه مظلمه رطبه عفنه

    • زائر 1 | 12:35 ص

      محاولة اغتيال العقل والفكر العربي قائمة على قدم وساق من قبل الانظمة العربية ويسخّر لذلك الاموال العربية أي أن عملية القتل والاغتيال للعقل العربي مدفوعة الثمن من أموال العرب انفسهم، فقد سخّرت موارد العرب كلها في حروب اعلامية لتجعل من العقل العربي قابل للاستحمار ومن ثمّ التسلّط عليه وتجييره لأغراض الساسة واصحاب الأجندات، حتى بات شباب العرب وقودا لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل بدل ان تصبح معاركهم لتحرير اوطانهم واذا بها معارك لتدمير ما تبقى من الوطن العربي لم يهدم بعد

اقرأ ايضاً