العدد 5192 - الأربعاء 23 نوفمبر 2016م الموافق 23 صفر 1438هـ

ننسحب ولا نستسلم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

نشرت صحيفة «ذا غارديان» البريطانية صورة جوية تظهر قبيلة تنتمي لمجتمع الموكسيهاتيتيما. هذا المجتمع «الأصلي» الساكن في منطقة يانومامي على الحدود البرازيلية الفنزويلية، واجه تحدياً كي يبقى في قيد الحياة، تمثّل في هَجَمَات تجار البحث عن الذهب والتعدين الممنوع. لقد انسحب أفراد القبيلة الذين يعيشون حياة بدائية من معركة خاسرة كان يستخدم فيها عدوهم «الجشع» البنادق والأسلحة النارية؛ كي يُعبّد لنفسه الطريق باتجاه أغنى مناطق الأرض حيث يسكن أولئك.

وتشير الصحيفة أن العام 1993م شهد أسوأ حوادث القتل بحق هذا المجتمع المسالم والمنزوِي، بعد أن قام المنقّبون عن الذهب غير الشرعيين بقتل 16 فرداً من الموكسيهاتيتيما وحرق منازلهم البسيطة وتشريدهم من أرضهم التي كانوا فيها منذ آلاف السنين، قبل أن يكتشف هذه الأرض الغنية بالمعادن والزراعة والمياه الإسبان والبرتغاليون، وفي الشمال الإنجليز والفرنسيين وغيرهم.

القلق الذي يساور الناشطين في مجال حماية السكان الأصليين أن هذا المجتمع القبلي لا يُدرك الآثار البيئية التي يُخلفها التعدين الممنوع في المناجم، والتي يعمل فيها قرابة الخمسة آلاف عامل غير شرعي لصالح التجار، حيث تصبح المياه الجارية ملوثة بالزئبق والذي يقضي على البشر بعد أن يدمّر الجهازيْن الهضمي والعصبي، وخصوصاً أن الصورة تُظهِر أن هذا المجتمع بدأ في التكاثر.

فبعد أن رحل الرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وعزل خليفته ديلما روزيف، تقصلت ميزانية الدولة المخصصة لحماية هؤلاء الناس بنسبة 37.7 في المئة كما يذكر التقرير). وباتت مؤسسة فوناي التي تراقب أراضي الشعوب الأصلية لحمايتها من الأغراب، عاجزة عن تقديم ما يلزم من حماية لهم أمام قرارات الرئيس البرازيلي الحالي ميشال تامر، التي لا يهتم كثيراً بهؤلاء، بل إنها (أي فوناي) أغلقت مقرها العام في منطقة يانومامي منذ عام تقريباً؛ بسبب شحّ الدعم.

هذا الخبر الذي نشرته الصحيفة جعلني أتأمل جانباً منسياً من هذا العالم حيث الشعوب التي كانت عامرة في تلك الأرض (وغيرها) قبل أن يأتيها المستكشفون أو الغزاة. جامعة مينيسوتا الأميركية كان لها دليل جميل يخص الشعوب المنسية. وقد حدّدتها بأنها مجتمعات أصلية توافرت لها القدرة على الاستمرارية التاريخية والتواجد على أرض، ما قبل أن يأتي المستعمر بالقوة ليهيمن عليها دون أن يستطيع أن يُذيبها في ثقافته وحياته الجديدة.

هذه الشعوب (وليس فقط قبائل الموكسيهاتيتيما أو شعوب الأمازون، بل يشمل حتى الذين كانوا موجودين في جزر المحيط الهادئ المتناثرة) التي يُقدَّر تعدادها اليوم بملايين البشر كانت حضارات وأمم لديها نظام حياة كامل الأركان. ومن ضمنها أنها كانت تمتلك نظاماً اجتماعياً وأخلاقياً متميزاً ربما لا نجده حتى عند الإنسان المتمدّن، الذي يعتقد أنه النموذج لحياة اجتماعية متطورة.

شعوب الـ بيغمي ذات القامات القصيرة على سبيل المثال (وهم أكثر الشعوب بدائية وقِدَماً كما يراها الباحثون) اكتشف الأب شميدت وبراون سخاءهم وكيف يكون التبادل في مجتمعاتها إرادياً لكنه إلزامي من الناحية الأخلاقية بين تجارة الصلصال مقابل منتوجات الغابة. وهذه الشعوب بطبيعتها ذات اكتفاء ذاتي لذلك، فالتبادل فيما بينها هو تبادل لتعزيز الأواصر الاجتماعية فقط.

ويشير الاثنولوجي الفرنسي اللامع مارسيل موس (1872م – 1950م) عن أحد المصادر بأن «لا أحدَ حرٌّ في أن يرفض هدية تقدَّم له. الجميع رجالاً ونساءً يتبارون في الكرم، كأن نوعاً من التسابق بشأن مَنْ يُهدِي أشياء أكثر وأرفع قيمة». كذلك يُعرِّج على شعوب الميلانيزون الذين يسكنون الجانب الغربي للمحيط الهادئ وعلى كلدونيا الجديدة في جنوب المحيط الهادئ وشرق استراليا.

ويذكر موس جانباً من خطاباتهم خلال الاحتفال بوليمة ما. «إن حفلاتنا بمثابة حركة الإبرة التي تُستعمَل في ربط أجزاء السقف المصنوع من القش كي تكون سقفاً واحداً متماسكاً ولكي تكون كلمة واحدة». وكانت الأجواء التي تحكم بعضاً من لقاءاتهم الاجتماعية هي العناق والبكاء على الفِراق، المصاحب للفِداء بالهدايا والطعام. وقد سُجِّلت كل تلك الوقائع من قِبل علماء الاجتماع.

أيضاً، فإن هذه الشعوب لم تكن جاهلة كما صُوِّر للعالم بل كانت تشهد تطوراً حضرياً متفاوتاً بين شعب وآخر. فقد وقف العلماء على شيء من ذلك في جزر تروبريان، إذْ كان أهلها من صيّادِيْ اللؤلؤ والسمك المَهَرَة والأثرياء قبل أن يأتيهم الإنسان الأبيض. وكانوا مبدعين في صناعة الخزف ولديهم عملات شكَّلوها من محار البحر ضمن نظام مالي وتبادلي كما أشار موس ومالينوفسكي.

وجميعنا يتذكر ما اكتُشِف في مدينة أزتيك المكسيكية قبل أشهر من نفق في باطن الأرض به حجارة ضخمة، عدَّها العلماء بأنها كانت تستخدم لعبادة آلهة إمبراطورية الآزتيك التى كانت سيّدة في تلك المنطقة إبّان الدولة الأميركية ما قبل كولومبوس والتي شيّدها السكان الأصليون. وهي أنفاق حفروها بدقة وعمق في الفترة التي لم يكن فيها لديهم (ولا لدى العالم) آلات الحفر.

هذه الشعوب نَمَتْ وتطورت بفعل احتكاكها ببعضها وببيئتها كما نحن. فهم يمتلكون ذات الخصائص العقلية والقوة العضلية التي تجعلهم يفكرون ويعمرون وإنْ بشكل متباين، لذلك وُجِدَ لدى بعضها ما لم يتخيّله أحد في القارة العجوز عندما بدأت اكتشافاتهم لتلك المناطق خلال القرن الخامس عشر والسادس عشر. لكن مع الأسف أبى الرجل الأبيض إلاّ أن يأخذ الأرض وما عليها.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5192 - الأربعاء 23 نوفمبر 2016م الموافق 23 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:43 ص

      ما الذي يريد ان يفصح عنه الكاتب؟؟ لا اجد ربط بين الموضوع و عنوان الموضوع؟؟
      ولماذا قال ننسحب ولا نستسلم؟؟

    • زائر 3 زائر 2 | 4:48 ص

      قال لك إن أفراد القبيلة انسحبوا من معركة خاسرة كان يستخدم فيها عدوهم «الجشع» البنادق والأسلحة النارية!! واضحة خوك

    • زائر 1 | 10:01 م

      احسنت

اقرأ ايضاً