العدد 5239 - الإثنين 09 يناير 2017م الموافق 11 ربيع الثاني 1438هـ

مستقبل العلاقات العربية - التركية إلى أين؟

رضي السماك

كاتب بحريني

تُعد تركيا من أبرز الدول التي تربطها بالعرب روابط تاريخية حضارية وثقافية ودينية ولغوية ليست خافية على أي مثقف أو مؤرخ. وكان أحد أخطاء النظام العلماني التركي الذي شيّده أتاتورك على أنقاض الامبراطورية العثمانية التي خرجت من الحرب العالمية الأولى منهارة، تطرّفه في التغريب انسياقاً مع افتتانه المهووس بالغرب إلى حد فرضه قطيعة شبه مطلقة مع تراث شعبه الإسلامي، ومن ذلك إلغاء الكتابة التركية بالحروف العربية وإحلال الحروف اللاتينية، ومحاولته كذلك تتريك الأذان، ومنع رفعه باللغة العربية والتي باءت كلها في النهاية بالفشل.

وفي آخر زيارة قصيرة خاطفة لي إلى تركيا، لفت نظري بانبهار في أكثر من حالة، لدى تصادف وجودي بالقرب مسجد أو جامع رفع الأذان ليس بلغة عربية سليمة فصحى فحسب، بل وبترتيل جميل مُدهش، قد لا تجده لدى مؤذنين آسيويين في بعض دولنا الخليجية؛ بل أنك لو فتحت «اليوتيوب» واستمعت لإحدى جلسات ترتيل الرئيس رجب طيّب أردوغان آياتٍ من الذكر الحكيم، لانتابك الانبهار الشديد من فصاحة لسانه وجمال ترتيله بلسانٍ عربيٍ مُبين.

ومن شواهد إعادة الاعتبار للغة العرب، والشريعة الاسلامية بعد عقود طويلة من تغييبها في المناهج الدراسية، إقبال عدد كبير من الجامعات التركية (14 جامعة حتى الآن) على إدخال مناهج تعلم العربية. كما انعقد في خريف العام الماضي في اسطنبول المؤتمر الثاني لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، بمشاركة عددٍ من الدول العربية من بينها مصر وسورية والسعودية لتدارس تطوير مناهج تدريس العربية للطلبة الأتراك. وإذا كنا فيما تقدّم قد ضربنا مثالاً على ما يربط الطرفين من روابط ثقافية ولغوية مشتركة، فمن نافلة القول إن ما يربط بينهما من أشكال الروابط التاريخية ثقافياً ودينياً وحضارياً لا حصر لها.

لكن السؤال المؤلم المحيّر: إذا كانت أُمتان متجاورتان، هما بكل تلك الروابط التاريخية العريقة، ألا يُفترض بأن تكون علاقاتهما الدبلوماسية مستقرة ومنسجمة مع مصالح شعوبهم؟

وبادئ ذي بدء، نُذكّر باستبشار الشعوب العربية خيراً بوصول حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي إلى السلطة خيراً مطلع العقد الماضي، وخصوصاً في ضوء رفع حكومته شعارها العتيد «سياسة تصفير المشاكل الخارجية»، وإعلان وقوفها مع قضية العرب المركزية «فلسطين»، لكن ما أن هبت رياح «الربيع العربي» مطلع العقد الحالي، سرعان ما انقلبت الأمور رأساً على عقب، وشهدت مواقف أنقرة تجاه دول المنطقة تذبذباً حاداً تارةً صوب سورية، وطوراً آخر تجاه مصر، وطوراً نحو العراق، وتارةً حتى نحو دول مجلس التعاون أو بعضها ولو بدرجة أخف، (انظر في هذا الصدد عمود جهاد الخازن في صحيفة «الحياة» السعودية، 7 يناير الجاري).

ولعل ذلك التذبذب مرده حداثة الحزب الحاكم في إدارة الدولة، وافتقاره للخبرة والنضج الكافيين في كيفية إرساء وإدارة سياستها الخارجية على اُسس عقلانية وثابتة، حيث طغى عليها في أغلب الأحيان منطق «الأدلجة» على منطق مصالح الدولة الدائمة .

وكانت أبرز انتكاسة في هذا الصدد تورط الرئاسة في شن حملة شديدة ضد السلطة الجديدة التي قامت بعد إسقاط الرئيس «الإخواني» المخلوع محمد مرسي، العام 2013، وقبل ذلك إقحام أنقرة نفسها بكل قوة في الأزمة العاصفة الداخلية التي تفجّرت في سورية، أكبر جارة عربية لها حدود معها، على إثر لجوء النظام فيها إلى قمع انتفاضة شعبه الاحتجاجية السلمية، واستغلال أطراف فيها لتحويلها إلى انتفاضة عسكرية بتحريض ودعم وتمويل مكشوف من قوى إقليمية ودولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون الكبار ، والذين تحمسوا لذلك التورط التركي وشجّعوه، بما في ذلك تسهيل ودعم جماعات مسلحة إرهابية أجنبية للدخول من تركيا في معترك الحرب الداخلية المستعرة، كـ»القاعدة» وملحقاتها المنشقة عنها، مثل «داعش» و»النصرة»، حتى انقلب السحر على الساحر، وارتد كيد شيطان الإرهاب على مموّليه ومشجعيه، وأضحت أنقرة نفسها تكتوي ببشائعه يومياً تقريباً .

وهنا لم تجد تركيا مناصاً إلا أن تعيد حسابات سياساتها الخارجية، فخفّفت من لهجة تشدّدها تجاه دمشق، وتراجعت إلى حدٍّ ما حملتها الإعلامية والسياسية على القاهرة، وأخيراً أسفرت زيارة بن علي يلدريم قبل أيام للعراق ومباحثاته مع نظيره العراقي حيدر العبادي عن نتائج مرضية لكلا الجانبين، لعل أبرزها موافقة الجانب التركي مبدئياً على سحب قواته من الأراضي العراقية ومن بينها «بعشيقة» مقابل تعهد الجانب العراقي بعدم السماح لحزب العمال الكردستاني التركي من اتخاذ الأراضي العراقي ملاذاً له لانطلاق عملياته العسكرية ضد أهدافٍ داخل تركيا.

لكن يظل السؤال: هل ستكون هذه الخطوات الأولية لتخفيف التوتر بين تركيا ودول الجوار العربي بدايةً نحو مراجعة جذرية شاملة لسياساتها الخارجية تجاه دول المنطقة على نحو دائم بعيداً عن «الأدلجة»، وبعيداً عن تأثرها بمشاعر الزهو بالقوة وأمجاد الماضي العثماني أم تكون مجرد تكتيكات براغماتية مؤقتة ليطغي عليها لاحقاً مجدداً طابع التذبذب؟ ذلك ما ستجيب عليه الأسابيع والشهور القريبة المقبلة.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5239 - الإثنين 09 يناير 2017م الموافق 11 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً