العدد 5329 - الأحد 09 أبريل 2017م الموافق 12 رجب 1438هـ

كيف نبني آراءنا... منى عبدالناصر

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

انتشرت لقطات فيديو قصيرة عبر تطبيق «واتساب» لحفل زفاف ابن منى عبدالناصر والمرحوم أشرف مروان مرفق مع تعليق يقول إن السفير الإسرائيلي كان من بين الحاضرين في حفل الزفاف هذا. أظهرت اللقطات منى عبدالناصر وهي ترقص مع بعض المدعوين ومع ابنها العريس.

عدا هذه اللقطات ليس هناك أي شيء في حفل زفاف أقيم في منزل العائلة، لكن السرعة التي انتشر فيها هذا الفيديو روجت انطباعاً بأن الابنة الثانية للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر قد ارتكبت أمراً يقرب من الخيانة العظمى.

انتشار اللقطات بتلك السرعة، هو بالتأكيد نتاج ذهنية عربية انفعالية بامتياز تستجيب للنميمة أكثر من الحقائق، وتبني مواقف بناءً على انفعال وتنميط مسبق. لكن إذا كان عدم التحقق والانفعال صفة ملازمة لعموم الناس، فإن قيام رئيس تحرير وكاتب عربي مخضرم بكتابة مقال كامل بشأن الواقعة أمر يمثل صدمة متجددة. إنه مؤشر خطير على أن صناع الرأي العام، أي الصحافيون والكتاب لم يسلموا من هذه الذهنية.

لقد كتب زميلنا العزيز مقالاً يفيض بالقدح لمنى عبدالناصر لأنها بحسب ما كتب في المقال وعنوانه «رقصت أمام السفير الإسرائيلي» وأفاض في القدح وربط الحضور المفترض للسفير الإسرائيلي في القاهرة لحفل الزفاف بالصورة النمطية المتداولة منذ عقود عن زوجها الراحل أشرف مروان باعتباره جاسوساً إسرائيلياً. ولدعم صدقية لكلامه عن أشرف مروان، عرض لما ورد في كتاب لضابط استخبارات إسرائيلي متقاعد عن الراحل مروان. لماذا يعتبر رقص منى عبدالناصر في حفل زفاف ابنها أمراً منكراً؟

كل أم عربية في كل بلد عربي ترقص في حفل زفاف أبنائها وخصوصاً الذكور منهم. فهل فعلت منى شيئاً جديداً عندما رقصت في بيتها فرحة بزفاف ابنها؟ لكن الإشارة المسبقة إلى حضور السفير الإسرائيلي جعل رئيس التحرير يكتب أنها رقصت أمام السفير الإسرائيلي. كان الأمر يتطلب دقيقة من البحث في الأرشيف لكي يكتشف زميلنا العزيز أن السفير الإسرائيلي غادر القاهرة لأسباب أمنية منذ شهر ديسمبر/ كانون الأول 2016 ولم يعد من وقتها، وأن خبر المغادرة نشر في وسائل الإعلام.

أكثر ما يقلقني هنا هو: كيف يقع رئيس تحرير وكاتب مخضرم ومتحدث دائم في القنوات التلفزيونية في غلطة مثل هذه؟ أي، بناء رأي من دون التحقق من المعلومات ومن دون بحث في الأرشيف؟ أما إعادة إنتاج الصورة النمطية عن أشرف مروان استناداً لكتاب لضابط استخبارات إسرائيلي متقاعد، فهي تذكير متجدد بمعضلة أخرى أشد وطأة: «الوقوع تحت سطوة الدعاية الإسرائيلية». أبرز علامات هذه المعضلة منذ عقود طويلة: تصديق كل ما يصدر عن الإسرائيليين (معاذ الله وغفرانه) وكأنه قرآن منزل والصدق الذي لا يأتيه الباطل أبداً.

هناك حجة لا تخلو من صحة للذين تستحوذ عليهم الدعاية الإسرائيلية وهي أن تصديق ما يقوله الإسرائيليون والغربيون عموماً، ناجم عن عقود من كذب الحكومات والأنظمة العربية. قد يكون هذا صحيحاً لكن في حدود. فهل يتوصل المرء للحقائق من مصدر وحيد هو الحكومات؟ وإذا كان الأمر يتعلق بأولئك الذين يطلق عليهم صناع الرأي العام، فإن الأمر يتجاوز أي نقاش بشأن خطأ أو هفوة لأنه يتعلق بأصول المهنة بالأساس في البحث عن المعلومات. أين نزعة الشك العقلية وأين مناهج البحث والاستقصاء والتحليل؟

المحاجة بشأن أشرف مروان وأدواره المزعومة «في خدمة إسرائيل»، تدفعني من جديد نحو الجدل بشأن الكيفية التي نبني فيها قناعاتنا والكيفية التي نفهم الأمور بها، بعيداً عن التنميط والتصورات المسبقة. بشأن أشرف مروان، هناك روايات إسرائيلية مثل هذه التي استعان بها زميلنا العزيز وهناك رواية عربية مصرية تحديداً. بحسب الرواية المصرية، فإن أشرف مروان كان جزءاً من خطة الخداع والتضليل المصرية التي سبقت حرب أكتوبر 1973.

أي أنه كان يزود الإسرائيليين بمعلومات مقصودة من المخابرات المصرية، أولاً لكسب ثقتها وفي مراحل لاحقة لتضليلها. آخر هذه المعلومات كانت مكالمة منه للإسرائيليين في يوم 6 أكتوبر نفسه بشأن ساعة الصفر، لكنه أبلغهم أن الهجوم المصري سيتم في السادسة مساءً، في حين أن الهجوم وقع كما يعرف العالم في الثانية بعد الظهر.

هذه هي الرواية المصرية، وأهم مقتضيات الموضوعية هي أن تتم مقارنة الروايتين لكي يتوصل المرء عبر المقارنة والتحليل إلى رأي بشأن الرجل. وفي أسوأ الأحوال، كان من المفترض أن يتم عرض الروايتين الإسرائيلية والمصرية بشأن الرجل وترك الحكم للقارئ، لكن أن نقدم الرواية الإسرائيلية حصراً للقراء باعتبارها الدليل القاطع فهو ليس خدمة مجانية لنشر الدعاية الإسرائيلية فحسب، بل تعيدنا من جديد إلى المعضلة الأهم: كيف نبني آراءنا وقناعاتنا.

في ثنايا الرواية الإسرائيلية إشارة بسيطة قد تدفع للشك فيها وهي تلك المتعلقة بمبادرة أشرف مروان نفسه للاتصال بالإسرائيليين في لندن وعرض خدماته عليهم. يكفينا هنا استذكار الطريقة التي كانت المخابرات الأميركية والبريطانية في ذروة الحرب الباردة ترفض أي روسي يبادر بالاتصال بها للعمل معها لأن هذه هي طريقة العملاء المدسوسين من أجهزة أخرى.

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 5329 - الأحد 09 أبريل 2017م الموافق 12 رجب 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:19 ص

      الخبر كان فعلا صدمة لينا خصوصا نحن الناصريين .. بس الحمدالله انك بينت لنا الحقيقة !!

اقرأ ايضاً