العدد 574 - الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ

التخطيط بالتقسيط... والإصلاح الإداري

عبدالحسن بوحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

التوجيهات التي تصدر باستمرار من قيادتنا السياسية تركز دوما على ضرورة التخفيف على المواطنين وتسهيل أمورهم وتبسيط اجراءات العمل والتقليل من الروتين الحكومي لتشجيع الإبداع والمبادرات الفردية في الاستثمار، وهذا بدوره يجعل المواطن يشعر بأهميته ودوره في التنمية وانتمائه إلى وطنه وأجهزته التنفيذية التي إنما وجدت لخدمة الوطن والمواطنين. هذه التوجيهات الكريمة لا تلقى أحيانا أذانا صاغية في بعض أجهزة الخدمة المدنية لأسباب عدة أهمها ضعف البنية التحتية التي لها متطلباتها ومقوماتها والتي يمكن إيجازها في الآتي:

أولا: التخطيط

يشير HARBISION في كتابه «الاقتصاد والجوانب الاجتماعية في التخطيط التربوي»،الصادر عن منظمة اليونسكو إلى سؤال وجهه إلى احد رجال الأعمال في دولة عربية عن الخطة المستقبلية في مجال الانتاج والتوظيف، إذ أجاب رجل الأعمال بأن التخطيط هو ضرب من التخمين والشرك لأن الله سبحانه وتعالى وحده يعلم ما في الغيب، التخطيط إذن بحسب هذا المفهوم الخاطئ هو ضرب من الغيب. هذا التحوير في المفاهيم الذي يشكل ثقافة واسعة في مجتمعاتنا تتناقض مع روح الإسلام الذي يدعونا إلى النفاذ إلى أقطار السماوات والأرض بسلطان العلم فالراسخون في العلم لا يسيرون في الظلام من دون نور العلم الذي يرشدهم ولا يجوبون البحار والمحيطات من دون بوصلة أو نجوم او حسابات فلكية تهديهم إلى قبلتهم.

التخطيط هو عمل لحسابات المستقبل، فعندما تصل نسبة النمو السكاني لدينا 4 في المئة مثلا، كم من الوظائف يتوجب علينا خلقها، وفي أية قطاعات اقتصادية؟ هذه الاسئلة من المفترض ان تجيب عليها الاجهزة التنفيذية المعنية التي تضع كلمة «يخطط» في مقدمة الوصف الوظيفي لكل مدير في الخدمة المدنية. كما تجيب عليها مراكز تخطيط القوى العاملة وخبراؤها في علوم الإسقاطات المستقبلية وعلوم الاقتصاد الرياضي وبحوث العمليات، فهل جهزنا مملكتنا بهذه الخبرات؟.

إن البديل للتخطيط الشامل المنسق هو التخطيط بالتقسيط، ذلك النموذج الذي يستند على ردود الفعل، فعندما تسوء الامور وتوشك أن تفلت من السيطرة يضطر البيروقراطي تحت الضغط ومخاطر الانهيار إلى ترقيع أوضاع مؤسسته بدلا من إصلاحها بالتخطيط المسبق.

انه اشبه بنموذج إطفاء الحريق الذي يهمل وضع الاحتياطات التي تمنع وقوعها. في هذا النموذج أيضا توضع مواصفات بناء الأرض بحسب مكانة مالكها، كما تصنف درجة الوظيفة بحسب منزلة شاغلها وتتداخل مواقع الكراجات وورش التصليح مع مواقع المطاعم والصيدليات لأن عملية التخطيط الطبيعي تتم بالتقسيط، فتتبدل المواصفات للمواقع بحسب الأهواء، ويصبح الممنوع هنا مباحا هناك، فتعم الفوضى ويشوه وجه المدينة.

ثانيا: الإصلاح الإداري

الإصلاح الإداري يتطلب استعدادا نفسيا وتدريبا عمليا وقناعة ذاتية، ومهارات إدارية لدى القائمين على إدارة الأجهزة التنفيذية، فمفهوم خدمة الزبون لها متطلبات والا تبقى ضربا من الأمنيات.

البيروقراطي عنيد وسلبي بطبعه يحيط نفسه بهالة من الإجراءات والأنظمة المعقدة، ويمتلك القدرة على اختلاق الأعذار لعرقلة أمور المراجعين، يعتقد جازما أن الرفض هو القاعدة والموافقة هي الاستثناء لأنه يفترض سوء النية دائما في المراجعين.

مواقفه الايجابية ليست واجبا مهنيا بل هي منة ومعروف FAVOURISM، هذا السلوك الإداري عندما يتحول إلى ثقافة في إدارة الخدمة المدنية يعرقل جهود التنمية ويخلق فجوة بين المواطن واجهزته التنفيذية قوامها انعدام الثقة وضعف الانتماء المؤسسي. لهذا السبب تولي الدول المتقدمة أهمية قصوى لمسألة الإصلاح الإداري وتعتبرها عملية مستمرة وجزءا من فلسفة الإدارة العامة.

الإصلاح الإداري يوجب إزالة الازدواجية والتداخل بين الأجهزة الحكومية. إن التنافس على مصادر القوى في الماضي اسس لإجراءات عمل وموافقات متداخلة بين مختلف الأجهزة تجير المستفيد والمراجع العادي للمرور على الاجهزة كافة لاستصدار تصريح معين. هذا التداخل أدى إلى تجزئة المجزأ واصبح مبدأ التجانس في الهيكلة والتنظيم لا مكانة له في الإدارة الحكومية، لماذا؟ لأننا نصمم التصميم ليناسب الفرد، فتارة نوحد أجهزة متجانسة وتارة نجزئها.

ثالثا: معايير وطرق وإجراءات العمل

إن توقيع اتفاق التجارة الحرة FTA المرتقب مع الولايات المتحدة الاميركية سيفرض علينا التزامات واستحقاقات لنتمكن من تحقيق الفائدة المرجوة منها. المستثمرون في الداخل والخارج الذين يتطلعون للسوق الأميركية الشاسعة يطمحون في تسهيلات واجراءات حكومية سلسة تسهل عليهم مهمة الوصول إلى هذه السوق العالمية. من هذه التسهيلات وجود معايير واضحة للحصول على الخدمة، وبنية تحتية، ومناطق صناعية مؤهلة لاستقطاب رؤوس الاموال، وإجراءات سلسة وتسهيلات للاستيراد والتصدير بالإضافة إلى التشريعات المتناسقة مع الاتفاقات الدولية. وهذه جميعها تتطلب وجود برنامج عمل وخطط واضحة لتحقيق وتنفيذ هذه الأهداف.

يكفي لطرد مستثمر محلي او اجنبي أن نفرض عليه الوقوف في طابور لساعات لاستخراج بطاقة سكانية أو التزاحم بصورة عشوائية وغير حضارية لتوثيق شراء عقار، هذه المهمة التي توكل في الدول المتقدمة لمكاتب الاستشارات القانونية. أو المراجعات المتكررة لأجهزة متعددة لتغيير عنوان أو تبديل أو اضافة كلمة واحدة على اسم المؤسسة، أو التعامل مع موظف في قسم الاستخدام لا يدرك الفرق بين المضمون الوظيفي والمؤهلات اللازمة لوظيفة المحاسبة المالية والمحاسبة الإدارية ووظيفة المدقق المالي والمحلل الاقتصادي، فيفرض على المؤسسة المالية توظيف كاتب لشغل وظائف تخصصية معقدة تتطلب مهارات خاصة، وبذلك يدلل على فهم خاطئ للبحرنة كمفهومه الناقص لتفسير نسبة 50 في المئة للبحرنة في قطاعات اقتصادية معنية.

إن احترام المعرفة شرط انساني للتنمية، من هنا بات من الضروري مراجعة مفاهيم سائدة في الخدمة المدنية كمفهوم الأقربون أولى بالمعروف.

في غياب معايير العمل الواضحة يعمد كل مسئول لوضع معاييره الخاصة في معاملاته مع المراجعين، كلما تعقدت طرق العمل والشروط للحصول على الخدمة اضطر المراجع إلى البحث عن وسائل غير شرعية للحصول على هذه الخدمة، حينها تنتشر ثقافة المحاباة والرشوة والفساد وبدلا من أن تصبح الخدمة المدنية خدمة للناس تتحول إلى منة ومعروفا.

في جو الانفتاح الاقتصادي والاتفاقات الدولية لا يسعنا اخضاع الإدارة في الأجهزة التنفيذية للأهواء والأمزجة الفردية أو أن يكون التغيير رهنا لهذه الأمزجة.

إن نموذج التخطيط بالتقسيط لم يعد مناسبا ومفيدا لطموحاتنا التنموية، ففي العام 1972م كانت نسبة القوى العاملة المحلية 38 في المئة من مجموع القوى العاملة، وعلى رغم التوسع في التعليم والتدريب بقيت هذه النسبة كما هي منذ ثلاثين عاما.

صحيح أن تنمية اقتصادية كبيرة قد حصلت خلال هذه الفترة إلا أن توافر الإدارة الفاعلة لتخطيط القوى العاملة كفيل بزيادة هذه النسبة بشكل كبير. وكما ثبت بالدليل القاطع أن اللجوء إلى اسلوب رد الفعل والترقيع طالما تشتد بنا الازمات لم يعد مجديا وخصوصا أننا على اعتاب توقيع اتفاق التجارة الحرة مع اكبر قوة اقتصادية عالمية ستفرض علينا أخذ زمام المبادرة لإصلاح الإدارة العامة للاستفادة من اتفاقات إنما أبرمت لتحقيق مصالحنا.

في هذه الأحوال وعلى ضوء الآمال والتطلعات لمستقبل زاهر يبقى نموذج التخطيط بالتقسيط عاجزا عن تحقيق هذه الطموحات

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"

العدد 574 - الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً