العدد 608 - الأربعاء 05 مايو 2004م الموافق 15 ربيع الاول 1425هـ

حرية التعبير تحتاج إلى حرّاس لحمايتها وليس لإعاقتها

في ندوة بمناسبة «اليوم العالمي للصحافة وحرية التعبير» ...

غسان الشهابي comments [at] alwasatnews.com

مضت بضعة أيام على الاحتفال باليوم العالمي للصحافة، إلا أنه يظل هاجسا يوميا، لا ينتهي بالأربع والعشرين ساعة المخصصة للاحتفال به. فالتقارير العالمية، والمشاهدات المحلية تشي بأن الخطر المحدق بالصحافة خصوصا وحرية التعبير عن الرأي عموما، لا يزال عظيما، يتحسن في بقاع ويتراجع في بقاع أخرى.

وإذا ما أردنا الحديث عن الصحافة محليا، فإن للأمر وجوه متعددة، وعلينا أن ندرسها حتى نأتي إلى الخلاصات غير الأكيدة أيضا عن حرية التعبير، واقعا وطموحا في البحرين، بدلا من نثر الدموع والخروج بكآبة أكبر من تلك التي دخلنا بها.

وقبل أن نلج في الموضوع، أذكر نفسي أولا أن موضوع الحرية، وحرية التعبير من الموضوعات المطاطة جدا والتي تنطوي على الكثير من التفسيرات... متى تبدأ الحرية وأين تنتهي؟

وفي الأيام الثلاثة الأخيرة، كثرت التصريحات عن حرية التعبير في البحرين، وكثر التباكي عليها أيضا، وشددت الجهات المختلفة على أهمية تعزيزها، وأسهبت في انتقاد تراجع الصحافة المحلية في هذا الشأن، وهذا أمر طبيعي، إذ نطمح جميعنا إلى خلق بيئة صحافية ترتفع فيها حرية التعبير والكتابة والتعاطي، وأعيد لأكرر أن قانون الصحافة والطباعة والنشر رقم (47) للعام 2002 ليس بالقانون الذي نطمح إليه، لا ولا هو المتماشي مع التطورات الكثيرة الحادثة في البلاد، ولا مع روح ميثاق العمل الوطني ودستور المملكة أيضا، فهو قاس غليظ، ولذلك انفض الناس من حوله، والتفوا عليه مهاجمين ومنددين ومقترحين، وتذكرون سلسلة المقالات التي نشرتها بعض الصحف المحلية بشأن هذا القانون، وما تبعه من خطوات وإجراءات لتعديله، ومر حوالي سنة ونصف السنة إلى الآن ولم تخرج تلك التوصيات إلى النور.

ولكن هل كان هذا القانون هو الكابح لحرية التعبير؟

شخصيا لا أعتقد ذلك، وأكرر أن ما أعتقده أن ما وراء القانون من أعراف كانت السبب الأكبر في كبح هذه الحرية، كما أن للمصالح الشخصية/المؤسساتية دور بارز في إغفال بعض القضايا، أو تحوير مناقشتها بالشكل الذي يخدم مصلحة المؤسسة الصحافية هذه أو تلك، وهذا الأمر أيضا ليست له صلة مباشرة بالقانون، فكما نعلم أن المؤسسات الصحافية هي مؤسسات تجارية في بداية الأمر، ولا يمكن أن يأتي من يقنعنا بأنها مؤسسات للخير والعدالة والحقيقة، وإنما هذه الشعارات والمبادئ هي وسائل لتحقيق الربح للمؤسسة، ومتى ما اصطدمت هذه الأفكار والربحية المرتجاة آخر العام، تم تمييع الكثير من القضايا وتحويرها لكي تكسب المعلن والمشتري على السوية.

إلا أننا لو قارنا الوضع اليوم في العام 2004 بما كان عليه في النصف الثاني من التسعينات لوجدنا بونا شاسعا في حرية التعبير في الصحافة المحلية، فقد كان محرم علينا في ذلك الوقت كتابة كلمة «برلمان» ولو بشكل عرضي، والآن نقوم بتشريح البرلمان طولا وعرضا... لم يكن في قاموس الصحافة في ذلك الوقت كلمة «معارضة» ولا يمر يوم من دون أن نقرأ هذه الكلمة في السياق السلبي أو الإيجابي في إحدى صحفنا، وعلى هذا نقيس الكثير من الأمور، فكان الصحافي قبل سنوات قليلة فقط يرتعب حينما يتحدث عن الديمقراطية، وصار اليوم يستخدمها في محلها وفي غير محلها.

إذا، لنتوقف قليلا قبل المضي أمام بعض ما أدعي أنها حقائق:

أولا: حرية التعبير مفهوم متغير، وبالمعنى الحرفي للكلمة لا توجد حرية تعبير مطلقة في أية دولة من دول العالم، وإنما طموح الإنسان دائما ألا تحده الحدود ولا تقيده القيود.

ثانيا: قانون المطبوعات والنشر سيئ لا مجال لتبريره، ولكن لا سبيل لتحميله وحده كل العبء المتأتي من وراء تلكؤ حرية التعبير.

ثالثا: المؤسسات الصحافية مؤسسات تجارية، تريد أن تعيش وتدفع رواتب لموظفيها وتتوسع، وإذا ما وازنت بين مصالح مؤسسيها واتجاهات المعلنين، وبين ما يتوقعه الناس من حرية تعبير لا متناهية، فإن الخيار دائما سيكون لصالح الربحية.

والآن لنتحدث بشيء من الصراحة عن حرية التعبير، ومن يقوم عليها.

في السنوات الأخيرة انفتحت فرص جديدة أمام جيل من الصحافيين الشباب لممارسة هذه المهنة، سواء من الذين درسوا وتخرجوا من كليات الإعلام، أو أولئك الذين تحمسوا للعمل الصحافي في الصحف المباعة بدلا من النشرات وغيرها من وسائل الإعلام غير المدفوعة الأجر.

و على رغم الجانب المهم من الدرس الأكاديمي الذي تلقاه جيل الصحافيين، فإن البون بين الدراسة والعمل، كالمسافة بين الحلم والواقع، ولا أدري ما الذي استفاده الجيل الشاب من الدرس الأكاديمي، إلا أن شريحة لا بأس بها من هذا الجيل لا تعرف من الصحافة إلا نقل الأوجاع والآلام والهموم، ووصف المسيرات والقبضات الملوحة في الهواء، وربما تعجز عن كتابة أخبار أو تعليقات أو مقالات تتسم بخفة الروح التي هي أيضا فن من فنون الصحافة، أو تصيغ تحليلا يدعو إلى التفاؤل. ولن أكون سوداويا لأقول أن ليس في الدنيا ولا في البحرين ما يدعو إلى التفاؤل، لأنني لست من هذا الجيل الصحافي.

ربما يلجأ بعض الصحافيين الشباب - الذين يشكلون اليوم الثقل الأكبر من العاملين في الصحافة المحلية - إلى النوع البكائي من التغطيات لأن الحزن والبكاء مؤثرين على الدوام في النفس البشرية، كما يأتي معظمهم من جيل تفتح وعيه على ما يسمى بـ «الحركة المطلبية»، فتأثر بهذه الفترة ولاشك، وصارت الصحافة بالنسبة إليهم ضارب ومضروب، وغمز السلطات الرسمية في كل شاردة وواردة، ومحاولة تمرير بعض المصطلحات الثورية التي تستخدم على صعيد الشارع، وغير المتفق عليها سياسيا، صار بعضهم شبه خجول من التعاطي مع وزير أو شخصية رسمية لئلا يتهم بالعمالة لحكومته، (يا للسخرية)، وبالتالي كلما انتمى إلى الناس، وكان أمينا - وربما مزايدا - في نقل همومهم، كلما شعر بالرضا عن نفسه، بغض النظر ما إذا كان عما يقوم به ينتمي إلى الصحافة كعلم وفن أم لا.

كثير من الصحافيين أيضا ينسون في غمرة الحوادث أنفسهم، وينسون ما هم يعملون فيه، فيروجون لمذهبهم، أو لطائفتهم أو لجمعيتهم السياسية، من دون حرج أو خجل، فتراهم يرفعون الهاتف لطلب الرأي والتصريح من أشخاص بأعينهم في كل الأمور، يتغاضون عن أخطائهم، يغفرون لهم الزلات ولا يذكرونها في كتاباتهم، في الوقت الذي يعظمون من هفوات وزلات مناوئيهم السياسيين والمذهبيين، يبدأون مطلع الخبر بما يتوافق مع أهوائهم وينتهون به - إن كانوا على درجة من المهنية - بما يريد الآخرون قوله، مع الأخذ بأن الانطباع الأول هو الانطباع الأخير والثابت، وهذه أمور تخالف التمهن الصحافي، وبالتالي، فحرية الرأي تتزلزل بنقلة على هذه الشاكلة.

ما أريد الوصول إليه، هو:

أولا: النماذج التي أتيت عليها من الصحافيين ليست هي القاعدة الثابتة، إذ إن كثيرا من السلوكيات غير الصحيحة في هذا الشأن باتت تتراجع، ببطء، ولكنها تتراجع، وتتعقلن ويحاول أصحابها أن يكبحوا أنفسهم وما في أنفسهم، ليقدموا مادة أقرب إلى الصحافة الوطنية منها إلى الصحافة الحزبية.

ثانيا: إن حرية التعبير لها مرسل وأداة نقل ومستقبل، والصحافي يعيد إنتاج الكثير من الآراء ليطرحها مجددا على الجمهور، وبالتالي فهناك من يرضى أو يسخط على عملية إعادة الإنتاج هذه، وإذا ما كان الصحافي نفسه غير مؤهل علميا ونفسيا ليتعامل مع الأمور كما هي (وليس كما يهوى) فإن خللا عظيما لا شك واقع في الصحافة المحلية يحرف الأمور عن سياقاتها.

ثالثا: إن التجاذب الواقع دوما ما بين إدارة التحرير والمحررين في أية صحيفة، ينتهي إلى إنهاء النقاش من قبل الأعلى شأنا لما يريده، ولكن الأمل معقود على الجيل الجديد من الصحافيين أن يتخلى عن ركام الانتماءات المختلفة، وينتمي إلى مهنته ليغالب بها الحجج التي تتجاذبه، والتي تجعله أحيانا غير راضٍ عن نفسه.

إن حرية التعبير تحتاج أبدا إلى حراس، لا ليعوقوها بل ليفتحوا لها الطريق ويحافظوا عليها مما يتناوشها، والحارس (الصحافي كما في مثالنا هنا) إن لم يتحل بالقوة في الطرح والقدرة على التجرد، وتبني وجهات نظر مخالفيه قبل موافقيه، قادها إلى مهاوي الردى، وجعل من حرية التعبير أضحوكة لها وجه الحرية وباطن الشخصانية والنفعية على أكثر من وجه، هذا إن تحلى بقدر من الذكاء، وإلا ففي الحالات الأخرى يكون باطنها كظاهرها لا فرق.

فدعونا من تحميل المسألة لجانب دون آخر، فحرية التعبير خبرنا كيف ندافع عنها عندما نستخدمها، وكيف نسعى لوأدها إن استخدمت ضدنا، ولا أبرئ أحدا

إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"

العدد 608 - الأربعاء 05 مايو 2004م الموافق 15 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً