العدد 656 - الثلثاء 22 يونيو 2004م الموافق 04 جمادى الأولى 1425هـ

مراوغة الإصلاح... وعصا أميركا الغليظة!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

أرجو ألا نخطئ هذه المرة، كما فعلنا في الماضي كثيرا، في القراءة الصحيحة، لمشروع إصلاح أحوالنا، الذي صدر عن قمة الدول الصناعية الثماني، إثر اجتماعاتها أيام 8-10 يونيو/ حزيران الجاري في ولاية جورجيا الأميركية...

الخطأ في قراءة هذا المشروع، أو وثيقته، سيضعنا في مآزق جديدة، لن نستطيع مواجهتها بقدراتنا الحالية، لكن نعرف جميعا أنها ضعفت حتى وصلت القاع، نحذر من ذلك لأننا نعرف بحكم التجارب السابقة أو عقلية التهاون والتهوين، والاستسهال والاستهبال، للأسف مازالت تحكم كثيرين ممن يوجهون الأمور في بلادنا.

ولقد لاحظنا أن معظم الحكومات العربية، إن لم يكن كلها، قد استقبلت وثيقة «المشاركة من أجل التقدم والمستقبل المشترك» الصادرة عن قمة الدول الصناعية الثماني، بترحاب وارتياح، الترحاب كان ضمنيا، أما الارتياح فقد كان علنيا، ولذلك أسباب عدة.

فقد تصورت حكوماتنا الرشيدة، أن الوثيقة بشكلها ومضمونها الذي صدرت به، قد جاءت مخففة هينة لينة، إذا ما قورنت بمبادرة الشرق الأوسط الكبير، التي سبق أن طرحتها الإدارة الأميركية قبل عدة شهور، حاملة من عنف الصوغ الكثير، ومن حدة المضمون الأكثر، ولعل أهم المخففات الجديدة، اعتراف الوثيقة الجديدة بأن الإصلاح في «الشرق الأوسط الأوسع وشمال إفريقيا» لا يمكن فرضه من الخارج ولا ينبغي، كما جاء في المادة الخامسة فقرةج.

وثاني دواعي الترحيب الحكومي العربي، جاء عبر المادة السادسة من الوثيقة المذكورة، والتي تنص على تعهد الدول الثماني نصا: «سندعم الإصلاح في المنطقة، جنبا إلى جنب مع تدعيم تسوية عادلة وشاملة ودائمة للنزاع العربي الإسرائيلي، استنادا إلى قراري الأمم المتحدة 242، 338، ونؤيد تماما بيان اللجنة الرباعية في 4 مايو/ أيار 2004، ونشاطرها رؤيتها لدولتين مستقلتين، هما «إسرائيل» وفلسطين قابلة للبقاء وديمقراطية ذات سيادة وأرض متصلة... إلخ».

وفي حدود المعلن، فإن الولايات المتحدة الأميركية، التي رفعت عصا الإصلاح الديمقراطي في المنطقة العربية والإسلامية، بحجة تخليصها من الاستبداد والعنف والفقر والتطرف الذي ولّد الإرهاب، قد عادت إلى جادة الصواب وطريق التعقل، فسمعت آراء حلفائها باقي الدول الثماني، واستشعرت خطورة رد الفعل السلبي على مبادرتها، الذي وصلها من أصدقائها العرب، واستذكرت مأزقها الرهيب الراهن في العراق وأفغانستان وفلسطين، بما ولده من كراهية متزايدة للسياسة الأميركية، فجرت ضمن ما فجرت إرهابا جديدا في مناطق مختلفة ضد كل ما هو أميركي، وربما ضد كل ما هو غربي...

ولذلك استكان العنف الأميركي للعقل الأوروبي، فجرى صوغ هادئ لوثيقة المشاركة من أجل التقدم والمستقبل المشترك، الصادرة عن قمة الثماني، يخفف حدة الضغط الأميركي، ويأخذ في الاعتبار، الاعتراضات العربية، بل والأوروبية، وخصوصا في نقطتي فرض الإصلاح قسريا من الخارج، وتجاهل حل الصراع العربي الإسرائيلي باعتباره معوقا أساسيا لكل إصلاح في المنطقة.

كل هذا ظريف وطريف... ولكن!

لكن الخطورة الحقيقية، تكمن في أن عقلية التهوين والتهاون، والاستسهال الاستهبال، السائدة في بلادنا، تصورت لقصورها العقلي وفشلها في القراءة الصحيحة للمتغيرات الدولية، أن فشلا ذريعا قد حاق بلا شك بالمشرع الأميركي السابق طرحه، وأن علامات الانكسار بدت واضحة على وجه الرئيس بوش، وأن عصابة «المحافظين الجدد» المتغلغلة في مفاصل القرار الأميركي قد لحقها عار السقوط، بدليل الاستقبال الأميركي العام والفاتر للوثيقة الجديدة الصادرة عن قمة الدول الصناعية، بل التجاهل الواضح الذي تعاملت به وسائل الإعلان الأميركية الرئيسية، صحفا وتلفزيونات، مع نتائج هذه القمة التي عقدت فوق الأرض الأميركية، وكان هدفها تتويج المشروع الأميركي واعتماده!

ونظن أن اعتماد هذه القراءة وبهذه العقلية، سيجرنا إلى مهاوي الهلاك، لأنها قراءة قاصرة لتطورات عميقة الدلالة في مجرى الحوادث والعلاقات الدولية، والخطورة أن نتبع هذه القراءة المغلوطة بالبناء فوقها، بناء مواقف وسياسات تحدد طبيعة تصرفنا، أولا تجاه هذه الوثيقة الجديدة، وثانيا تجاه الدول التي تبنتها، وثالثا تجاه السياسة الأميركية تحديدا، التي أصبحنا نجهل مداخلها ومخارجها الحقيقية!

إن قراءة ثانية، ولا أقول قراءة سليمة تماما، ترى عكس ما تراه معظم حكوماتنا الرشيدة، أي ترى أن الولايات المتحدة الأميركية بقيادة الرئيس بوش، المدعوم مباشرة من عصابة المحافظين الجدد، أصحاب مشروع إعلان الامبراطورية الأميركية سيدا وحيدا على عرش العالم، قد خرجت من قمة الدول الصناعية الثماني بانتصار استراتيجي بالغ الأهمية، يفرض فلسفتها وسياساتها ويغلب مصالحها على الآخرين، حتى من الحلفاء الأقرب والأوثق.

لقد تنازلت الإدارة الأميركية، في مجال «صوغ» الوثيقة إياها، وقبلت بتعديلات أوروبية وعربية وربما روسية، وخصوصا في ضرورة أن ينبع الإصلاح من الداخل، وضرورة حل الصراع العربي الإسرائيلي، وضرورة مراعاة التميز والتفرد في كل بلد عربي، وكان هذا التنازل تكتيكيا من الناحية الشكلية، مهد الطريق لإجماع الدول الثماني على الوثيقة بشكلها المعلن، ولترحيب الدول العربية بها، إرضاء لغرور، أو تخفيفا من هواجس وشكوك...

لكن بالمقابل، ظل «جوهر» ومضمون الأفكار الأميركية السابقة والواردة في مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو الجوهر والمضمون الرئيسي الذي جرى البناء عليه في الوثيقة الجديدة «المشاركة من أجل التقدم والمستقبل المشترك مع الشرق الأوسط الموسع وشمال إفريقيا».

والجوهر الذي نعنيه بوضوح هو أن الولايات المتحدة، قد أخذت المباركة واستعانت بالمظلة الدولية التي تمثلها أكبر ثماني قوى صناعية غنية متقدمة في العالم كله، لاعتماد أفكارها - أفكار اليمين من عصابة المحافظين الجدد - بشأن أحقيتها وأحقية حلفائها المتقدمين في التدخل المباشر والحاسم في شئون دول ومناطق، تعتبرها متخلفة أو متطرفة، وترى فيها مصدرا للتهديد، سواء بالإرهاب المباشر، أو بتوليد العنف والتطرف والتعصب وكراهية الحضارة الغربية «اليهو-مسيحية»، والإسلام هنا هو المعني والعروبة هي المقصودة!

وبهذه الخطوة أصبح في أيدي الولايات المتحدة الأميركية، سلاحا دوليا معترفا به من «الكبار»، لممارسة التدخل في الشئون الداخلية للآخرين، بكل الطرق السياسية والعسكرية، الاقتصادية والثقافية والإعلامية، لفرض نماذج الإصلاح والتغيير التي تراها مناسبة، بعد التشاور الخجول مع الحكومات المطيعة المدجنة، أو التعاون المباشر مع منظمات المجتمع المدني ورجال الأعمال، وصولا إلى إعادة تأهيل برامج التعليم والثقافة والإعلام، لتغيير العقول وتحديث الأفكار وتعديل المواقف...

وبقدر ما نعرف أن وثيقة القمة الصناعية هذه، سيجري اعتمادها بصورة أوسع، وتحويلها إلى «برامج عمل» تلتزم بجداول تنفيذ زمنية، وخصوصا في قمة حلف الأطلنطي يوم 28 يونيو/ حزيران الجاري في اسطنبول، بقدر ما لن نندهش إذا ما ذهبت الولايات المتحدة، بكل ذلك إلى مجلس الأمن لتنتزع منه قرارا يضفي شرعية دولية على مجمل هذه الأفكار، لتتحول إلى وثائق دولية واجبة التنفيذ، حتى بقوة الفرض والقسر، باسم حق التدخل الإنساني الدولي!

وفي حين ارتاحت حكوماتنا الرشيدة إلى المظهر الخداع لوثيقة القمة الصناعية، تحت تصور تراجع السياسة الأميركية الضاغطة، فبدأت «ريمة تعود إلى عادتها القديمة»، أي تجاهل المطالب الشعبية والجهود الوطنية لحتمية الإصلاح الديمقراطي الشامل، أو على الأقل التسويف فيه وترحيله، في ظل تراجع الضغوط الأميركية، وصولا إلى تجاهل كل ما له علاقة بالإصلاح... فإن الآلة الأميركية والأوروبية، بدأت العمل في طريق تنفيذ أفكار وثيقتها الجديدة، ولعل أهم الخطوات التنفيذية في هذا الاتجاه، أولا بدء التشاور والتعاون والدعم الوثيق لهيئات ومنظمات ورجال أعمال وإعلاميين وحزبيين في بلاد عربية عدة. لتشكيل «قوة عمل» داخلية لتنفيذ الإصلاحات التي جاءت في هذه الوثيقة، وثانيا وهذا هو الأهم «تشكيل مجلس وزاري» للإشراف على خطوات الإصلاح وبرامجه التنفيذية في البلاد العربية والإسلامية، ومن ثم محاسبتها على الأداء...

وهذا هو بالضبط، مجلس الوصاية الدولي الجديد، الذي تتزعمه أميركا المنفلتة، والذي يذكرنا، بما كانت تفعله الامبراطوريات الاستعمارية الغربية، خلال القرنين الماضيين، دفاعا عن مصالحها الكونية على حساب الشعوب المقهورة.

ولذلك نقول ونعيد، إن تلكؤ حكوماتنا الرشيدة في إجراء إصلاحات حقيقية، تلبية لمطالبنا وحاجاتنا الوطنية والقومية، وممارسة سياسة التسويف والمراوغة والترحيل، والتهوين والتهاون، والاستسهال والاستهبال، لن يؤدي فقط إلى تراكم المشكلات وتعاظم الأزمات وزيادة الفقر والإحباط والفساد والاحتقان الداخلي، ما يؤذن بالانفجار الشامل، ولكنه يؤدي كذلك إلى إعطاء الفرصة الذهبية لمجلس الوصاية الدولي بقيادة المحافظين الأميركيين الجدد، للتدخل لفرض ما يرونه إصلاحا ضروريا لأحوالنا الماثلة البالية، التي بات العالم يجمع على ضرورة تغييرها، بينما بعض حكامنا يتمسكون بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان...

وهذا هو الخطر المحدق الذي لن نتوقف عن التحذير منه!

خير الكلام:

يقول عباس العقاد:

فشَتِ الجهالةُ واستفاضَ المنكرُ

فالحقُ يهمسُ والضلالة تَجهرُ

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 656 - الثلثاء 22 يونيو 2004م الموافق 04 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً