العدد 740 - الثلثاء 14 سبتمبر 2004م الموافق 29 رجب 1425هـ

إجابة على السؤال الأكثر سذاجة... «ولماذا لا نكرهكم»؟ (1-2)

غسان الشهابي comments [at] alwasatnews.com

كثيرة هي الروايات التي حاولت الوصول إلى أول من أشعل السؤال «لماذا يكرهوننا؟»، وهو سؤال أميركي بامتياز، تجلى بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وظل يراوح لا يجد الإجابة بالنسبة إلى الأميركيين أنفسهم، لأنهم ما كانوا يطرحون هذا السؤال على أنفسهم من قبل، بل ولم يكونوا مشغولين بما يجري في خارج مناطقهم الخاصة، على اعتبار أنهم «العالم»، وقد يكونون محقين فيما ذهبوا إليه، فالولايات المتحدة - كما يقال دائماً - هي البلد الوحيد في العالم الذي يمكنه أن يغلق حدوده ويعيش مكتفياً بنفسه، لولا النفط.

قيل إن امرأة قد كساها الغبار إثر انهيار أحد برجي «مركز التجارة العالمي» صاحت إزاء كاميرات المحطات الفضائية قائلة: «لماذا يكرهوننا؟»، قيل إن الرئيس الأميركي جورج بوش، ضمّن هذا السؤال أحد خطاباته المبكرة بعد حوادث التفجيرات التي لاتزال تثير الكثير من الأسئلة، وقيل أيضاً ان محرر مجلة «نيوزويك»، العربي الأصل فريد زكريا كان أول من طرح هذا السؤال على غلاف مجلته. ولا يعنينا كثيراً البحث عن «أولية» طرح السؤال، بقدر «أولوية» طرحه بالنسبة إلينا (عرباً ومسلمين) وإليهم.

يروي التاريخ الحديث أننا نظن دائماً أن قضايانا واضحة جداً بحيث لا تحتاج إلى مزيد من الشرح والإيصال، وأن العالم يعيشها معنا لحظة بلحظة، وأن القوى المؤثرة العالمية تعرف - بالضبط كما نعرف نحن وتؤمن تماماً كما نؤمن نحن - بثنائية الحق والباطل في كل مشكلاتنا، وبالتالي لا ندفع بشكل قوي ومستمر في اتجاه إعادة التعريف والنشر لما نؤمن به، وهذا ما يجعل الهوة سحيقة - مع مرور الزمن - بين أصل المشكلة ونتائجها.

فاليوم، القضايا العربية جميعها تحرّكها الولايات المتحدة التي تصوغ قراراً بشأن سورية، وتحضّر لقرار بشأن السودان، وترتّب أوضاع المنطقة كما تشتهي، وتقود الدول الكبيرة والصغيرة إلى حيث تريد أن تصل بها، وبعد ذلك يسأل الأميركيون: «لماذا يكرهوننا؟».

إلى المقدمات

الشعوب لا تعرف الدبلوماسية، ولا يمكنها أن تصافح عدوها أمام الكاميرات وتبتسم، لا تكذب في الغالب على أنفسها ولا تصدّق كذباتها، وبالتالي، فالعفوية هي سمة هذه الشعوب.

في مساء الحادي عشر من سبتمبر، كان كاتب هذا المقال، في أحد المكاتب في العاصمة، وكانت أنباء الحوادث تتواصل، فدخل موظف بسرعة إلى حيث زملائه، وقال، كمن يحمل بشرى: «طائرة ثانية تضرب البرج الآخر»، واختفى، بعد مرور فترة من الزمن يدخل متهللاً، وبصوت يملؤه السرور، وغير قليل من التشفي يقول: «لقد سقط البرج انهار البرج الأول»، يختفي لا أحد يعلم أين كان يتابع هذه الأخبار بشكلٍ لحظي، فيدخل بعد مدةٍ من الزمن «ليبشّر» بسقوط البرج الثاني.

لم تكن أية علامة للألم في وجوه الجالسين، لم يكن يعنيهم الناس هناك، كانت تعنيهم الغطرسة الأميركية التي ضربت في عقر دارها، لا يهم من فعلها، ربما البعض دعا الله حينها ألا يكون عربٌ أو مسلمون متورطين في الأمر، لأن العواقب ستكون وخيمة، ربما لم يتصور أحدٌ حينها «وخامة» هذه العواقب.

إذا كان هذا المشهد البحريني الجزئي يعكس حال الشعور العام الذي يلف أميركا والبيت الأبيض، فإن المشهد الفلسطيني الذي استغلته القوى الأميركية والإسرائيلية المتربصة بالفلسطينيين، أكثر عفوية وصدقاً، حين خرجوا مبتهجين بما حدث، يوزّعون الحلوى وما جادت به الأنفس، أن أراهم الله في عدوهم يوماً أسود قمطريرا فهؤلاء الذين يقتلون برصاص أميركي، ويدهمون بدبابات أميركية، ويقصفون بطائرات ومروحيات أميركية، وتهدم بيوتهم وتجرّف مزارعهم بجرافات وبلدوزرات أميركية، هل يحق لهم التفكير في غيرهم في تلك اللحظة؟ هل عليهم أن يشاطروا السلطة الفلسطينية تقديم واجب العزاء لأهالي الضحايا (دافعي الضرائب) التي يذهب منها سنوياً ما يزيد على ملياري دولار إلى الخزانة الإسرائيلية لتزيدهم قهراً وقتلاً وإذلالا؟

هذا بالضبط ما قاله رئيس مركز التفاهم الإسلامي المسيحي في جامعة جورج تاون الأميركية جون أسبوزيتو، حينما سألته قناة «سي إن إن» - في لهاثها لتقديم تفسيراتٍ لما حدث بعد أيام قليلة من هجمات سبتمبر - عن السبب في عداء الشعوب المسلمة لأميركا، وهل الأمر يرجع إلى فشلٍ في توصيل الرسالة الأميركية إلى هذه الشعوب، فرد أسبوزيتو بأن الفلسطيني الذي يستيقظ على طائرة الأباتشي الأميركية والدبابة الأميركية وهي تقتل أبناءه وتهدم بيته، ليس بحاجة إلى دعاية ليتعرف على أميركا، فهو يعرفها ويفهمها، وهو لا يلام في كره أميركا، فهذا هو الوجه الذي فضلت أميركا أن تقدم به نفسها إليه.

في الماضي، كان الحقد على رموز أميركية بعينها، أولئك الكبار الذين تتدلى جلود وجوههم، يغالبون الموت، ومع ذلك يسيّرون العالم كيفما أرادوا، ولكن هؤلاء الأشخاص لم يعودوا مثل جون كنيدي، من السهولة أن يتم اقتناصهم وتضييع ملفات مقتلهم بين الإدارات، فهم اليوم محصّنون، وإذا تحصّن المزارعون وراء القلاع فليحرق حصادهم ومزارعهم، هذا أقل ما يمكن أن يؤذيهم، ويشعل النيران في قلوبهم هذا ما يجري الآن للولايات المتحدة، البيت الأبيض والبنتاغون والمؤسسات العتيدة لا يمكن الوصول إليها حسناً، فلتكن المؤسسات الأميركية الأكثر اطمئناناً والأقل حماية هي الأهداف، فجرى تفجير السفارات وضرب المصالح، حتى أصبحت هذه السفارات قلاعاً ووزارات دفاع مصغرة قائمة بذاتها فتحوّل الأمر إلى حاملي تلك الجنسية بوصفهم أقل تدرّعاً وتحصّناً من المباني وهكذا تكر السبحة وتتواصل السلسلة.

كيف تكره من تحب أو تحب من تكره؟

تمثّل العلاقة بين الدول الاستعمارية والمستعمرات الخاضعة لها، حالة فريدة من الكره والحب، ببعض ما للحب من معان. فنجد أن الدول الاستعمارية الأساسية في العالم، وهي المملكة المتحدة وفرنسا، قد لقيتا مقاومةً شرسةً في الكثير من الدول المستعمَرة، وأجبرت على الرحيل بقواتها ومؤسساتها من تلك الدول، ولكن المقاومين - أو أبناءهم - إذا ما خاب ظنهم في بلادهم المحرّرة، فإنهم - في الغالب - يلجأون إلى تلك الدول التي بذلوا الغالي والنفيس من أجل التحرر من سلطانها.

فترى المشرقيين من العرب والهنود يهاجرون إلى انجلترا، ونفرٌ كثير من أهل المغرب العربي جلّ حلمهم أن يجدوا لهم موطئ قدم في فرنسا، يكرهون أن تهيمن تلك الدول على أراضيهم وسياستهم واستقلالهم، ولكنهم في الوقت نفسه، يتوقون شوقاً إلى أن يصبحوا مواطنين فيها. إنه التأثير الثقافي الذي نكرهه إن أقام لدينا، ولكننا لا نكره أن نقيم فيه.

أميركا لم تستعمر البلاد العربية يوماً ما كما فعلت دول من القارة العجوز (أوروبا)، ولكنها تسلّلت إلينا عبر السينما وأفلام الرسوم المتحركة والغناء والموسيقى والرياضة والصحافة. نستنكر - في الغالب - أن يتم جلب «الخبراء» من تلك الدولة، ولكننا - في الغالب أيضاً - لا نستنكر أن نعمل «أجراء» في الدولة تلك نفسها. بل أن الكثيرين يفكرون - إن هم ذهبوا في بعثات دراسية طويلة - هل يرجعون إلى بلادهم حيث الفرص القليلة، عدم التقدير، انعدام التفكير العملي والعلمي، سيادة التمييز والمحسوبية، انحسار حرية التعبير... الخ، أم يبقوا في «أرض الأحلام».

هذا الأمر هو ما يدفع عشرات الآلاف من العرب سنوياً ليقصدوا أميركا للدراسة العليا هناك في سبيل تحصيل العلوم والمعارف ولكن ما أن يعود الأبناء إلى بلادهم، ويبدأ جليد « الحلم» في الذوبان، حتى يعودوا ليروا نشرات الأخبار التي لا ترى هناك، ويعيشوا هموم أمتهم التي يفضل البعض تناسيها ولو إلى حين.

كان الكره يتجه إلى الإدارة الأميركية، ولكنه بات ينتقل شيئاً فشيئاً إلى الأفراد أيضاً المغسولة ذاكرتهم وقواهم المعرفية بما تقدمه لهم الآلة الإعلامية المنحازة تماماً إلى الجانب المتصلب ضد كل ما هو غير أميركي، على الإطلاق، الأمر الذي لا يخص العرب والمسلمين وحدهم، بل يلقى التقزز من أكثر شعوب العالم، لأن الولايات المتحدة صارت تهيمن اليوم على العالم عسكرياً واقتصادياً، مع أن «الهيمنة تأتي عادة من خلال بعض اشكال التفوق المؤسساتي في عمل الحكومة، الحياة الاقتصادية والتنظيم العسكري. تمتع الرومان والعثمانيون والبريطانيون بالتفوق المؤسساتي على الشعوب الخاضعة لهم» (هشام القروي)، وهذه القوة المسيطرة تعميها قوتها وجبروتها من أن تنظر إلى أن الشعوب الأخرى لها ثقافتها وتاريخها، وهذه النقطة الأخيرة (التاريخ) غالباً ما يقف عندها مفكرو العالم القديم، معتبرين أن الولايات المتحدة تنفس على العالم القديم تاريخه الموغل في القِدم، وإرثه الحضاري المتوارث وبالتالي، فإن السعي الأميركي إلى «أمركة» العالم العربي/الإسلامي، وخصوصاً بعد الحادي عشر من سبتمبر، يجد أيضاً مقاومة وكرهاً كبيرين.

هذه الشعوب تود أن تأخذ ما لدى أميركا من قضاء مستقل، وتقدير للأداء، وشفافية نسبية أفضل، وقدرة اقتصادية عالية، ولكن ضمن شروطها الخاصة، وبحسب سيرورتها التي تغذيها ثقافات مختلفة عن الثقافة الأميركية التي تريد أن تنزلها إدارة البيت الأبيض بالمظلات على تلك الدول، لكي تتأمرك وتكفي الولايات المتحدة شر الصدام.

إن مئات الملايين من الدولارات التي تنفقها الولايات المتحدة اليوم في سبيل تحسين صورتها لن تغيّر كثيراً ولا قليلاً في صورتها المرسومة لدى شعوب الشرق الأوسط، ففي تقرير بثته «رويترز» في 24 يوليو/تموز الماضي، تبين أن رأي العرب في أميركا منذ العام 2002، يتخذ منحنى أسوأ من ذي قبل، وهذا لا يأتي لأن الإدارة الأميركية كانت تسيء إلى الهنود الحمر، أو تضطهد السمر، أو أنها تتخذ سياسات ضريبية غير منصفة لسكانها، ولكن الأمر يتعلق بالسياسة الخارجية لها، فقد دخل في ذلك الاستطلاع 3300 من مصر والأردن ولبنان والمغرب والسعودية والإمارات ليجيبوا على سؤال واحد: «لماذا يكرهوننا؟» هذا المسح الذي أعده رئيس المعهد العربي الأميركي جيمس زغبي بيّن هبوط إعجاب المغاربة بالولايات المتحدة من 38 في المئة العام 2002، إلى 11 في المئة في العام 2004، وتدنى من 12 في المئة في السعودية (وهي نسبة منخفضة أساساً)، إلى 4 في المئة، وفي الأردن من 34 في المئة إلى 15 في المئة، وفي لبنان من 26 في المئة إلى 20 في المئة. وفي مصر من 15 في المئة إلى اثنين في المئة فقط وفي حين لم يجد الكثير من «الممسوحين» العرب إجابة محددة عن أفضل الأشياء التي يرونها في الولايات المتحدة، فإن السياسة الأميركية تجاه العراق وما يسمى بـ «الإرهاب» والعرب وفلسطين، حصلت على معدلات سيئة للغاية. هذه النتائج تطابق تماماً ما خلصت إليه لجنة التحقيق في حوادث «11 سبتمبر» التي أعلنت في ذلك الشهر أيضاً، التي ترى أن التأييد للولايات المتحدة في الدول الإسلامية قد تدنى

إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"

العدد 740 - الثلثاء 14 سبتمبر 2004م الموافق 29 رجب 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً