العدد 792 - الجمعة 05 نوفمبر 2004م الموافق 22 رمضان 1425هـ

دورة محكمة

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

الآن تعود بي الذاكرة أربعة عقود الى شارع الشيخ عبدالله بن حمد في المحرق، حيث منزلنا الكائن في أحد الأزقة غير النافذة المتفرعة من هذا الشارع.

شارع لن يزيد طوله على 4 كيلومترات لكنه بالنسبة لطفل صغير كان عالما قائما بحد ذاته مثله مثل آلاف الشوارع في كل مناطق البحرين. الدكاكين المتناثرة على الجانبين ملاصقة للبيوت. مصابيح الإنارة القليلة المتناثرة في الازقة. كل دكان له رواده وكل دكان له مذياعه الذي يربط الرواد بالعالم وبما يجري فيه. في مشوار صغير لدكان الخباز مساء - لن يتعدى العشرين دقيقة - كان بالامكان ان يعرف المرء ميول رواد هذا الدكان او ذاك من خلال الاذاعة التي يستمعون لها. كان الجميع يستمعون لـ «صوت العرب» من القاهرة لا للاخبار وخطب عبدالناصر، فحسب بل لصوت ام كلثوم ايضا. وكان البعض يستمع لـ «صوت الجماهير» من بغداد، لا لسماع خطب الزعماء والاخبار فقط، بل لسماع ناظم الغزالي وزهور حسين ايضا. سياسة وفن في الوقت نفسه، ربما ان ذلك جعل الناس مسترخين قليلا على رغم كل شيء. في تلك الايام عندما كنت انظر الى هذا الشارع، كنت أراه طويلا وواسعا وحافلا يضج بالحيوية. اما اليوم فهو مزدحم وضيق ويسوده الضجيج وأبدو غريبا فيه. ربما ان ذلك مرده الفارق بين عين الطفل وعين الرجل. وبدلا من الدكاكين ظهرت «مقاه الإنترنت» ومطاعم رخيصة وكافتريات ومغاسل للثياب وبرادت ومكاتب من كل نوع. الآن أصبحت أراه ضيقا ومكتظا، وما فيه يبعث على الضيق.

لماذا أتذكر هذا الآن؟ سبب بسيط للغاية هو «الزمن». او بعبارة أخرى فإن برهانا متجددا وملموسا يطرح نفسه امامنا كل يوم، لكن المأساة هي اننا «نحن الذين لا نتغير».

لن نأخذ العبر في مدلولات التغيير الذي يحدثه الزمن من المباني والاكتظاظ وازدحام الطرق وتغير البشر وزيادة عدد السيارات، رحيل الكبار وظهور أجيال جديدة. المحك الحقيقي سيبقى هو: كيف أثر الزمن على طريقتنا في التفكير؟ هنا النتيجة مخيبة للغاية.

انعشوا ذاكرتكم قليلا وتذكروا مشكلاتنا في ذلك الوقت، او بالأصح المشكلات التي عايشها آباؤنا في وقت كنا نحن فيه اطفالا صغارا لا يشغلنا سوى ايجاد ساحة للعب او فيما بعد نادٍ أو مركز ثقافي شبابي نمارس فيه هواية ما وينمي فينا طاقة ما أو مسرحا. مكتبة نستطيع ان نقرأ فيها ما هو مفيد.

كانت تلك الستينات من القرن الماضي وها نحن اليوم في الاعوام الاولى من الالفية الثالثة للميلاد، فما الذي تغير في تفكيرنا؟ ما الذي تغير في طرائقنا ومفاهيمنا؟ ما الذي راكمناه من خبرات في الكيفية التي نواجه بها مشكلاتنا؟. قلت مكتبات نقرأ فيها ما يفيد؟ أين هي؟ هل سيذكرني احد بالمكتبات العامة؟ شكرا على التنبيه والاستدراك، ولعل المقارنة الآن واستذكار أوضاع هذه المكتبات والشكوى المريرة التي مازالت قائمة تكفي لكي ندرك ان المشكلة فينا نحن.

ماذا كان آباؤنا يواجهون في ذلك الوقت من مشكلات؟ احتجاجات وتمرد وانتفاضات ضد سلطات الحماية البريطانية؟ يسعون لمعيشة حسنة وكريمة لهم ولابنائهم من بعدهم؟ حسنا ها نحن في السنوات الاولى في الألفية الثالثة للميلاد، ومازلنا نقول ان هناك حاجة ماسة لتحسين مستويات المعيشة وان المعاناة باتت تشمل حتى الفئات الوسطى، لم يعد تعريف الفقر والحاجة قاصرا على المعدمين، بل امتد ليشمل حتى موظفي الدولة.

عشنا في رخاء لسنوات وشهدنا اوقاتا طيبة وحلت مشكلات السكن وتحسنت أحوال الكثير من الناس وانتقل كثيرون الى خانة الأثرياء، لكن هذه الحقيقة عندما توضع أمام الحقائق الجديدة التي نحن بصددها تثبت من جديد ان مشكلات المعيشة والفقر كلها مشكلات متحركة وليست ثابتة. فما كان ممكنا قبل سنوات لن يكون ممكنا بعدها والسبب بسيط للغاية طالما ان هناك سكانا يتزايدون.

كيف كان آباؤنا يحلون مشكلاتهم؟ بالانفعال والصراخ؟ كانوا يعانون من «الطائفية»؟ حسنا، اذا كنت أتحدث عن الستينات، ففي العقد الذي سبقه اي الخمسينات، قدموا مقاربة لتجاوز الطائفية الى ما هو أكبر، الى «هوية وطنية جامعة». اسألوا أنفسكم: أين هي هذه المواطنة الجامعة اليوم؟ هل تلمسونها في حياتكم اليومية؟ هل هي المقياس الذي نحتكم اليه في كل مشكلاتنا وفي كل اختلافاتنا واجتهاداتنا؟ ما الذي تغير، أهي الاماكن، أم العقليات، أم الاشخاص؟.

اين نقطة البدء في كل هذا الذي نحن بصدده؟. ها انا في عقدي الرابع من العمر ولا يبدو الزمن بالنسبة لي سوى دورة محكمة لا تتغير من تاريخ مستنسخ يعيد نفسه، عايشته طفلا وها أنذا أعايشه رجلا يقترب من عامه الخمسين، وليس لدي أي يقين حيال المستقبل

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 792 - الجمعة 05 نوفمبر 2004م الموافق 22 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً