العدد 932 - الجمعة 25 مارس 2005م الموافق 14 صفر 1426هـ

نساء التضحيات... والظل

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

أمر واحد استوقفني في احتفال جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي ليل الخميس الجمعة الماضي: التحية التي وجهها يعقوب جناحي للنساء.

دعي جناحي إلى المنصة لإلقاء كلمة بعد تكريم مؤسسي جبهة التحرير الوطني ومناضليها وشهدائها، آثر جناحي أن يكرس كلمته لتحية النساء سواء "الجبهويات" مثلما أسماهن أو الأمهات أو الاخوات من عائلات المناضلين. وبحسب جناحي: "اللواتي تحملن أعباء كبرى وحملن المسئوليات في غياب أزواجهن أو اشقائهن أو أبنائهن". تبدو هذه أكثر من لفتة تحية تقال في احتفال يوبيل ذهبي لتنظيم سياسي تمثل النساء عنصرا عضويا أساسيا فيه، خصوصا إذا كان المتحدث شخصا يدعى يعقوب جناحي تقول بطاقة تعريفه: 40 عاما في المنفى.

أربعون عاما في المنفى توجب علينا أن نعرف تفاصيلها من زوجة جناحي. وفي الستينات التي دشنت رحلة المنفى لجناحي وحضرتها أنا طفلا، كانت النساء تطلق الزغاريد عندما يحتشد الرجال في التظاهرات. هذه علامة الحضور الأول، ولأحد مناضلي تلك الفترة كانت الزغاريد أكثر من تحية. ليس هناك من هو أفضل منه لكي يلتقط المدلولات لأنه روائي.

كان يقول، عندما نتوجه للمحرق للمشاركة في التظاهرات، كانت الأزقة تردد صدى زغاريد أولئك النسوة الجالسات أمام قدورهن... وبعضهن يطل من النوافذ وأخريات من فوق السطح، لكن لا تحسب أن هذه الزغاريد تداعب غرورنا فحسب، كانت تهزنا في الصميم: "علينا أن نكون رجالا فعلا لكي نستحق تلك التحية من الأمهات".

لكن أدوار النساء وتضحياتهن تذهب وراء هذا الرباط العاطفي وتفسيراته المفتوحة بكثير. تلك التظاهرات كانت لا تخلو من المتمردات أيضا: بضع فتيات من طالبات المرحلة الثانوية في الغالب يسرن خلف التظاهرة "تقليد مازال مستمرا حتى اليوم" بزيهن المدرسي أو أخريات بعباءاتهن السود يرفعن الصور واللافتات ويرددن الهتافات.

هن حاضرات في التمرد، وإذا كان حضورهن مازال يتم حتى اليوم تحت معاطف الرجال في كل التنظيمات السياسية بلا استثناء، فإن هذا قد لا يكون المؤشر الأصح لإدراك الحجم الهائل لتضحيات النساء. فالرجال أزواجا كانوا أم أبناء أم اخوة سيظلون حتى في ذروة انخراطهم في كل ما هو جاد وسام ومقدس "أطفالا كبارا" يحتاجون للرعاية. وسواء تعلق الأمر بضرائب النضال والسجن والمنافي أو الموت، أم بحياة خالية من كل هذا الصخب، وحدهن النساء من يحمل الأكلاف الباهظة.

قد يزهو الرجال في تمردهم، يسجنون، يعذبون، يرتحلون في المنافي وقد يغيبهم الموت، أحيانا لا نحتاج إلى عناء في التفسير لكي نفهم معنى أن تكون رجلا: نحن رجال وكفى. لكن خلف هذا التوهج لبطولات الرجال، تقف النساء لتقدمن الثمن الذي يعرفنه جيدا: الأحزان، تربية الصغار، النهوض بكل الأعباء والعيش وحفظ الأسرار والأهم إيداع الأحزان في أعماق القلب والعيش بكرامة.

لديكم قصص أكثر مما لدي بالتأكيد، وإذا شئتم أمثلة أخرى تظهر المدى الذي يمكن أن تذهب إليه النساء فثمة الكثير. مناضلات في صفوف التنظيمات السياسية من كل الأشكال ولاحظوا هنا أن الأعباء تصبح مزدوجة: العيش كزوجة وأم وما تقتضيه ظروف العمل السياسي السري، سجينات والأعباء هنا مضاعفة لأن ثمة أثمانا نفسية وإنسانية مباشرة. ولن يكفينا لكي نفهم هذه الأعباء سوى تصور النموذج المعاكس، المرأة البعيدة عن أي اهتمام أو نشاط سياسي. هذا النوع من النساء تجد نفسها أحيانا أمام ثمن تدفعه: زوج أو شقيق أو ابن ينخرط في هذا الدرب.

الفتوة، عنفوان الشباب، أم المبادئ السامية أم الصبر والنفس الطويل والنضال الدؤوب، كلها بطاقات تعريف للرجال المناضلين منذ شبابهم المبكر، لكن خلف هؤلاء أمهات وشقيقات وفتيات يتحملن الأثمان. المناضلون يخلدون في الأدبيات ويحتفي بهم المهرجان لكن ثمة جندي مجهول على الدوام.

ولأن ثقافتنا العامة وتقاليدنا ماتزال تضع الحدود الواضحة بين أدوار النساء وأدوار الرجال، فإن الأعباء التي تنهض بها النساء تبدو واضحة طالما أن مسئولية المنزل وتربية الأبناء ماتزال مسئولية تتحملها النساء بجدارة. لكن يحيرني في هذا الجدل الذي أعادت فتح لفتة جناحي أن النساء ليسن قضية بعد. لا يتعلق الأمر بالمساواة والمطالب القديمة الجديدة بشأن إصلاح أوضاع النساء، بل أعني أن كل القضايا الأخرى يمكن أن تخضع للأسئلة وإعادة القراءة والنظر باستثناء ما يتعلق بالنساء. وأظن أننا اليوم بحاجة لذلك. علينا أن نسأل فحسب: إذا كانت النساء تلعب كل هذه الأدوار وتدفع كل هذه الأثمان وتكاد تختفي بالمقابل في حياتنا، ألا يفصح هذا عن خلل جسيم؟

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 932 - الجمعة 25 مارس 2005م الموافق 14 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً