العدد 995 - الجمعة 27 مايو 2005م الموافق 18 ربيع الثاني 1426هـ

التفاصيل إذ تكشف العقلية

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

استلم منذ شهور فاتورة كهرباء وماء تليق بمصنع صغير: 200 دينار في المتوسط. وفي كل مرة اذهب إلى مبنى كهرباء مدينة عيسى وأقف في الطابور وأدفع المبلغ. وفي المرة الأخيرة في شهر مارس/ آذار الماضي دفعت مثل أي مواطن صالح 300 دينار من مجموع 400 دينار.

سألت موظفا بالدائرة: أريد معرفة متوسط استهلاكنا الشهري للكهرباء. أوضح لي أن متوسط استهلاك الكهرباء لا يتعدى 70 دينارا في الشهر الواحد لكن بوجود رسوم البلدية البالغة 50 دينارا فان المبلغ يرتفع الى 120 دينارا في الشهر.

ما العمل؟ تصحيح رسوم البلدية وتلك قصة أخرى. الوثائق المطلوبة: نسخة من البطاقة السكانية أو جواز السفر، نسخة من وثيقة الأرض، نسخة من رخصة البناء، نسخة من فاتورة الكهرباء. وعندما تسأل الموظفين في البلدية: رخص البناء تصدر من عندكم فلماذا تطلبونها منا، يأتيك جواب عجيب: "لا نستطيع الوصول إليها". هؤلاء هم موظفو التحصيل في البلدية الذين لا يستطيعون الوصول إلى رخص بناء تصدرها البلدية. جواب يدفعك حتما إلى التساؤل: "أليس لدى الوزارة أرشيف أو قاعدة بيانات؟". هذا سؤال مترفق لان السؤال الاصح هو: "هل انتم تتبعون وزارة أخرى؟".

لو أن الحديث كان يجري عن وزارة وأخرى، لربما هونت الأعطال الفنية والصعوبات التقنية من الأمر إذا ما طرحت كمبرر، لكن أن تتحدث عن وزارة واحدة لا تملك قاعدة بيانات موحدة، فإن هذه مشكلة لا تتعلق بالتقنيات أو ما إذا كان الأرشيف قد تم تحويله كاملا إلى قاعدة بيانات الكترونية، بل انك تتحدث عن "أسلوب وعقلية إدارة".

قبل سنوات، طلبت رخصة لبناء غرفتين في الدور الثاني من المنزل فطلبوا مني أن أحضر من بين المستندات المطلوبة خريطة البناء الأصلية المختومة من البلدية. سألت المهندس المختص: ألستم أنتم من تختمونها وتعطونا التصاريح وتحتفظون بنسخة منها لديكم؟ كان الجواب: "تعال معي إلى المخزن لكي أريك الخرائط والوثائق الأخرى... مكومة فوق بعضها يعلوها الغبار من دون أي ترتيب أو فهرسة وبعد فترة من الوقت نتخلص منها".

من البلدية إلى الكهرباء من جديد لتصحيح الفاتورة بعد أن اكتملت الأوراق المطلوبة ووعدونا خيرا. ليست المشكلة ان تقابل مسئولا مهذبا ومتعاونا إلى أقصى الحدود، بل المشكلة في مكان آخر.

استخرج مشرف دائرة التحصيل في كهرباء مدينة عيسى كشوف الاستهلاك من الحاسوب وراح يشرح لي مثل معلم ماهر التفاصيل ويعلم بالقلم على المبالغ والخانات. وعندما سألته عن الكيفية التي فرضت فيها الرسوم المؤقتة البالغة 50 دينارا، كان الجواب: "أحيانا يشك مفتشو البلدية في أن يكون مبنى ما مؤجرا وليس ملكا، أو لا يعرفون ما هو هذا المبنى "هكذا وفق كلامه" فيقومون بفرض هذا الرسم عليه". السؤال الطبيعي كان: "لماذا لا يطرقون الباب لكي يتأكدوا؟". الجواب: ابتسامة وهزة كتف. راح يشرح أكثر الدوافع التي حدت بالبلدية إلى فرض هذه الرسوم عندما أشار إلى أن البعض يقوم ببناء منازل، لكنه يقوم بتأجيرها ويبقي على عداد الكهرباء باسمه. هكذا إذا ندفع نحن ثمن طمع البعض في توفير دنانير إضافية.

عندما شجعني تهذيبه وتعاونه، استفسرت عن القراءات التقديرية وكنت قد دفعت فواتير تحمل قراءات تقديرية أكثر من مرة. علل الأمر بأن ذلك يمكن أن يحدث في فترة الصيف عندما يقل عدد قارئي العدادات فتقوم الدائرة بوضع قراءات تقديرية للمنطقة بكاملها على أمل أن يراجع المواطنون الدائرة لتصحيح الفاتورة. السؤال الطبيعي: "أليست هناك طريقة أخرى لضبط استهلاك الكهرباء غير القراءة التقديرية... غير طريقة خذوه فغلوه هذه؟".

كان ذلك كله يوم الأربعاء الماضي الذي كان بحق "اليوم العالمي لتخليص المعاملات الحكومية" بالنسبة إلي. ذهبت إلى البلدية من جديد، لكن لاسترجاع مبلغ التأمين الذي دفعناه عندما حصلنا على رخصة البناء. استغرق الأمر ساعات والسبب هو التوقيع. ثلاثة موظفين كان عليهم أن يوقعوا في ورقة الطلب قبل أن أسلمها إلى موظفي الحسابات. وقع هؤلاء بكل أريحية بعد سؤال أو اثنين فور أن وضعت الورقة أمامهم. انهم مفتشون ويقضون ساعات من دوامهم في الطواف على المناطق. لكن المشكلة عندما تضع الأوراق مكتملة أمام المحاسب: "راجعنا بعد شهر وأكثر أخي العزيز". لماذا يا أخي العزيز: "والله الأوراق يجب أن تذهب إلى المنامة، إلى الوزارة... مسامحة أخوي مو بيدنا". هكذا يطبق بطء الإجراءات ومركزيتها على الأداء اليومي ويضيع تهذيب الموظفين واستعدادهم لأداء الواجب، لأن المعني الوحيد الباقي من هذا العناء كله هو: "البلدية تستلم فورا ونقدا لحظة نطلب نحن الترخيص، أما عندما نريد استرجاع أموالنا فعلينا الانتظار شهرا وأكثر". وإذا جاز التغاضي عن مركزية إجراءات صرف الأموال لدواعي شفافية الإجراءات والحفاظ على أموال الناس، فإن افتقاد إدارات في وزارة واحدة إمكان الوصول إلى قاعدة بيانات كل دائرة أمر لا يمكن تبريره بأي مبرر. فإذا كانت وزارة واحدة تعمل وكأن إداراتها تتمتع بحكم ذاتي، فكيف نتحدث عن شبكة إلكترونية حكومية مكتملة منذ العام 1999 ستشكل قاعدة للحكومة الإلكترونية؟

يوم أن أدى علي الصالح اليمين الدستورية كوزير للبلديات في التعديل الوزاري الأخير، التقيته قبل ساعات بشكل عابر في مؤتمر. حييته قبل أن يتوجه إلى مبنى الحكومة وداعبته بالقول: "الله يعينك على البلديات". ولست آمل إلا أن يوفق الصالح وينجز ما أنجزه في وزارة التجارة إذ المعاملات كلها تتم بالكمبيوتر واستخراج سجل تجاري لا يستغرق أكثر من 45 دقيقة إذا كانت الأوراق والمستندات مكتملة والطلب مستوفيا للشروط

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 995 - الجمعة 27 مايو 2005م الموافق 18 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً