العدد 4669 - الجمعة 19 يونيو 2015م الموافق 02 رمضان 1436هـ

«فئران» السنعوسي تتوارى في ظل «ساق البامبو»

عابها غياب الرواة وتنحي اللغة وتأكيد التكرار...

أطلق الروائي الكويتي الشاب سعود السنعوسي روايته الثالثة (فئران أمي حصة)، وفيما أصاب الكاتب في اختيار هدف الرواية وغايتها السامية وحمل على عاتقه رسالة الأدب الإنسانية، إلا أن روايته الجديدة توارت خلف النجاح الباهر لروايته الثانية (ساق البامبو). واستطاع المتابع أن يقرأ تكرار ذات الكاتب في جانبيه الفكري والتقني، كما تمكن القارئ أن يقدر عالياً الجهد الكبير الذي بذله السنعوسي في روايته الجديدة ولكنه أيضاً وضع يده على نقاط قوة العمل الإيجابية وكذلك السلبية. ولأننا نجد تجربة السنعوسي ظاهرة تستحق المتابعة والتمحيص، ولأن النص الناجح يتربص به اثنان: رقيب سياسي أو محلل نفسي؛ فقد ارتأينا أن نقدم قراءة موجزة لأحداثها ثم نتحدث عن بعض مواضع القوة والضعف فيها؛ ونحن على ثقة أن الكاتب سيكون علامة مستقبلية فارقة في الأدب العربي.

تعتبر رواية (فئران أمي حصة) والصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون امتداداً طبيعياً للنضج الروائي والفكري للكاتب والذي يسير في خطٍ تصاعدي، إذ بدأ السنعوسي رحلته الروائية مع (سجين المرايا) وكانت تعكس حالة فردية غاب عنها التشويق لابتعادها عن الهموم المجتمعية وتركيزها على حالة فردية، ولكنه انطلق بقوة في ساق البامبو حين وضع يده على الجرح الدامي للكويت، والذي تمثل في المصيبة الأزلية للبدون، استطاع السنعوسي هناك أن (يفضح) الخلل في النسيج الكويتي عبر أحداث درامية مثيرة جذابة تتحدث عن هم جماعي مجتمعي، وانطلق السنعوسي في روايته الثالثة وبجرأته المعتادة نحو جرحٍ آخر يتمثل في الطائفية البغيضة التي يعيشها الكويتيون وسواهم في الخليج، وكان الأمل يحدوه في أن تحقق الرواية نجاحاً باهراً على غرار البامبو لأن الهم والجرح مجتمعي يتعدى حتى حدود الكويت. فأين برزت قوة (فئران أمي حصة) وأين كانت نقاط ضعفها والتي كان بإمكان السنعوسي أن يدركها ويتداركها؟

بداية، لابد من تسليط الضوء على أحداث الرواية نفسها، فهي تنطلق من على أرض الكويت التي تأثرت بتداعيات قيام الثورة الاسلامية في إيران عام 1979، ثم حرب الثماني سنوات بين إيران والعراق، وهنا بدأت بوادر الطائفية تتجلى بين الأبوين صالح وعباس الذين نقلا أمراضهما لولديهما الصديقين فهد وصادق، بينما احتفظت الجدات (حصة وزينب) بطهارتهما وتعاليهما عن أمراض الطائفية التي اختفت بدورها بعد اجتياح صدام للكويت عام 1990. ولكنها ظهرت مجددا بعد حرب 2003 على العراق. تلك كانت الخلفية التي رسم عليها السنعوسي روايته وراهن على نجاحها، أمورٌ ركّز السنعوسي على إثارتها وجذبها للقاريء بلا شك. وأضاف السنعوسي هدفه المنشود من الرواية (theme) وهو وضع اليد على الجرح والتحذير من خطورته، وكيف سيكون الوضع المجتمعي إذا تنامى السرطان الطائفي هناك، وهو ما دفعه لقراءة المستقبل واستشفاف ما يمكن أن يصبح عليه النسيج الكويتي. كل تلك الأهداف تُحسب للكاتب ولجرأته وللإنسان الوسطي المعتدل الذي يرى ضرورة التعايش بين الطائفتين الرئسيتين هنا وهناك.

وفي ذات السياق، لا بدّ من الإشادة أيضاً بالحس التجريبي الذي اتبعه السنعوسي، إذ أبدع عبر تجريب روائي قد يكون مبتكراً؛ وهي أن تحمل الرواية الأم (فئران أمي حصة) بين ثناياها رواية (إرث النار) بفصولها (شرر، لظى، جمر، رماد)، لتنتهي إحداهما العام 2020 بينما تنتهي الأخرى العام 2017 وهو أسلوب رائع لقراءة المستقبل واستشرافه وحتى التحذير من مخاطره. فأين كانت نقاط الضعف على الجهة الثانية؟

موت المؤلف

لقد اختبأ السنعوسي خلف شخصية كتكوت لا محالة، فهي شخصية لا تميل إلى إحدى الطائفتين ولم تتلوث بوبال الطائفية المنتشرة، فهو من جهة أراد أن يكون الروائي (novelist) غائباً لكي يضفي مصداقية على العمل، ولكنه اختبأ خلف كتكوت الراوي (narrator). وهنا نتذكر كتكوت الطفل الذي بدأ بكتابة رواية (إرث النار) مطلع الثمانينات وهو مترفع عن الخلافات الطائفية واستمر به الحال كذلك حتى النهاية في عام 2020. وإنني أجد أن ذلك يتنافى مع المنطق؛ فلا يمكن لطفل يعيش في مجتمع طائفي ثم يشيخ فيه دون أن يتأثر بأحد الطرفين وما ذلك إلا امتداد لشخصية السنعوسي ذاته. كان يمكن للكاتب أن يسرد الرواية على لساني صادق (الشيعي) وفهد (السني) ويسرد كلٌ منهما ثقافته وثقافة أسرته وحتى بيئته، وهنا يكون القارئ مستفزاً وعلى المحك ويكون له القدرة على الاختيار والتقييم ومتابعة مسار فئران أمي حصة ليجد أنها ليست إلا (فئران السنعوسي) ذلك الكاتب الإنسان، ويكون حينها لا دور حقيقياً للمؤلف؛ وبالتالي يمتلك القارئ كل الحق في تأويل وتفسير النص وهو ذات المذهب الذي طرحه الناقد الفرنسي رولان بارت.

إغلاق النص

أراد الكاتب أن يستشرف المستقبل ويحذر منه، ولكنه وضع النص في مأزق حين أغلقه وأعطى تاريخاً محدداً لنهايته وهو عام 2020، وماذا بعد ذلك العام؟ هل يتوقف قراء المستقبل عن القراءة؟ إنني أجد أن من مقومات النص الناجح هو الذي يكون مفتوحاً دائماً، يعايش المستقبل؛ وهو القادر على أن يكون نصاً مستقبلياً على الدوام كنصوص عشق الآتي، فيه نزعة مضادة للتاريخ؛ ولا ينتظر تبريراً من الكاتب باعتبار ذلك العام يمثل رمزاً للمستقبل؛ فالرواية متى أصبحت بين يدي القاريء فهي ملكٌ له، يستمتع بها، يقيمها ويقومها أيضاً.

اللغة

إننا نذكر القاريء الكريم بروايات أخرى معاصرة، ولعل أكثر المهتمين بأدب الرواية قرأوا أعمال الجزائرية أحلام مستغانمي على سبيل المثال، وهناك لا ينفك القارئ أن يضع خطوطاً كثيرة أسفل سطورها، ثم اقتباس ما كتبت وتداوله كتابة وتحدثاً فأحد أسس جمال اللغة عندها يعتمد على تشويه اللغة ذاتها فالناس تكره تشويه الطبيعة، ولكن ومن خلال قراءة (فئران أمي حصة)، هل اقتبس أحدُ القراء شيئاً، أجد أنه وكما أن هموم المجتمع تحتاج إلى أدب مسئول فإن اللغة أيضاً تتطلب من الروائي أن يكون مسئولاً ويرتفع بالذائقة إلى لغة أجمل وأكثر امتاعاً، وإن ترف اللغة جزء من جمال النص. ولا أشك مطلقاً أن السنعوسي قادرٌ على توفير ذلك ووضعه بين يدي القاريء.

سطوة ساق البامبو

لاشك أن السنعوسي أدرك أن مقوِمات نجاح ساق البامبو كثيرة، وعندما كتب (فئران أمي حصة) أراد أن يستخدم ذات التقنية التي أدت لنجاح البامبو؛ وهنا نركز على بعض المتقابلات في العملين: مشكلة البدون تساوي مشكلة الطائفية، حيث المؤلف يكتب من قراءاته للواقع. كرة القدم الكويتية تساوي مؤيد الحدّاد. محمود الكويتي يساوي عبدالكريم عبدالقادر. الأصدقاء مشعل، تركي، جابر، عبدالله، مهدي تساوي نفس الشخصيات.

لقد نشد الكاتب ذات النجاح ولكنه وقع من حيث يشعر أو لا يشعر في مطب التكرار؛ وهو الأمر الذي يزيد من قوة ظهور الروائي على حساب موته

الفانتازيا

يصر السنعوسي عادة على أنّ الواقع المعاش مرٌ بما يكفي وجدير بمناقشته وتسليط الضوء على عيوبه وأمراضه وليس في ذلك غضاضة ولا حرج، وهو يؤكد أنه لا حاجة للفنتازيا متى ما وُجد الواقع بأمراضه التي تحتاج إلى علاج أدبي مكثف؛ وإنني ومن خلال تتبعي لكتاباته ولنضجه الفكري والروائي، أجد نفسي على يقين من أن كتابات الواقع ما هي إلا مرحلة عمرية فقط، وأنه بعد عقد من الآن، سيجد نفسه أمام مهارة أخرى ربما تكون أكثر تأثيراً وهي طريقة علاج أمراض المجتمع من خلال الفانتازيا، فالقلم الشاب سيصبح ناضجاً وسيكتشف أساليب ناجعة في الطرح الجميل.

ختاماً، يمكننا القول أن الكاتب الناجح هو القادر على مغازلة القارئ، وأن النص الممتع يكون لا مكانياً ولا زمانياً. تقرأه في مكان وزمان محددين وتحيله وتسقطه على غيرهما؛ ولذلك فإن نضج السنعوسي في فكره وإنسانيته وأدبه الروائي يتخذ خطاً تصاعدياً جميلاً، وإنه يعطي للأدب مسؤلية كبيرة يحملها على عاتقه، فما عادت الرواية من أجل الترفيه فقط ولكنها رسالة مفتوحة من أجل التصدي لتصدعات المجتمع، محاولة للترميم والبناء كما يؤكد ذلك الفيلسوف الأميركي تشومسكي: «أنّ الجملة المفتوحة انتصابٌ لا يتناهى».

العدد 4669 - الجمعة 19 يونيو 2015م الموافق 02 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً