العدد 4735 - الإثنين 24 أغسطس 2015م الموافق 10 ذي القعدة 1436هـ

الذين ساحوا داخل الوطن

عصمت الموسوي

كاتبة بحرينية

استيقظت فجر السبت الماضي على وقع انقطاع الكهرباء في بيتي، وحمدت الله أن الانقطاع لم يستغرق سوى فترة قصيرة، إذ لا شيء يمكن للمرء أن يفعله دون كهرباء، إنما احتمال الحياة في جو أشبه بمصهر شركة ألبا، نحن المواطنون الذين قررنا البقاء والسياحة في الوطن «نسيح» مع اللحظات الأولى لانقطاع الكهرباء أو بمجرد القيام بمشوار خارجي أو ممارسة أعمالنا دون عمال وشغالات. وتعاودنا الرغبة مجدداً بالفرار إلى الربوع الباردة، بيد أننا نتذكر أن السفر مهما طال قصير، وأن الحر طويل وباقٍ، وأنه قدرنا الذي لا مفر منه.

جلجامش الذي تغنى بأرض ديلمون ووصفها بأرض السلام والخلود، لو عاش إلى يومنا هذا لفضّل الرحيل عنها سريعاً من بواكير الصيف، كما يفعل موسرو أهل الخليج الذين اشتروا البيوت والشقق في باريس ولندن وماربيا، وقبلها في لبنان وسورية والأردن والقاهرة وغيرها، تحسباً لأيام الجحيم في خليجنا، لكن الشرق الأوسط كله شهد هذا العام أطول وأشد موجة حر في تاريخه، ومن المرجح أن تتصاعد في السنوات المقبلة على إثر التغيّرات المناخية وزيادة الاحتباس الحراري.

لا عزاء للمواطنين الذي ساحوا في الوطن سوى الجلوس في الغرف المكيفة والمولات المكيّفة، والبحلقة في شاشات التلفزيون والكمبيوتر والهواتف، نتلقى عبرها صور وأفلام أعزائنا وأصدقائنا المسافرين. وهناك عزاء آخر قد يبعث على تقليل منسوب الغيرة والحسد والتخفيف من الضغط الحراري والنفسي الذي يعانيه مواطنو السياحة الوطنية الداخلية، إذ هم يسمعون كل يوم عن مصيبة جديدة تضرب عواصم السياحة العربية والعالمية، فموجة الحر لم تستثنِ أوروبا هذا العام، ثم من كان يتصور أن يعلق لبنان في أزمة جديدة «خدمية سياسية»، تتعلق بأرتال القمامة المتراكمة في الشوارع والطرقات، وأن تخرج المظاهرات مجدّداً تحت يافطة «طلعت ريحتكم». وحين تجدّد انقطاع الكهرباء عن العراقيين خرجوا في مظاهرات تطالب بمحاسبة الفساد والمفسدين.

من القمامة إلى الكهرباء، إلى انعدام فرص العمل فالبطالة فالفقر، كل شيء في العالم العربي يقود إلى أخطاء النهج السياسي الذي لم يفد ولم يستفد من احتجاجات الربيع العربي، ولم يصلح حاله بعد أن أحكمت الحكومات العميقة السيطرة عليه. فهل تُفلح التظاهرات ضد الفساد والقمامة والجوع فيما أخفقت فيه الاحتجاجات الأولى؟ وهل يصحّ النظر إلى سوء إدارة الخدمات المعيشية بمعزلٍ عن السياسة؟

ومن مفارقات الدهر، أن البلدان التي نجت من الحر لم تنجُ مما هو أعظم، وها هو صباح آخر يفاجئ سيّاح تركيا هذا العام، فالأزمة السياسية التركية في الداخل والخارج ألقت بظلالها على الموسم السياحي، واختار المنتقمون عدة مواقع لزرع التفجيرات فيها... وأين؟ على بعد خطوات من أهم معلم سياحي في عاصمة العثمانيين «قصر دولمة باهتشه». وتمسي تايلند الوجهة السياحية العالمية الجذابة، على أكثر من انفجار وسط العاصمة، أهي السياسة هذه المرة أم هو التنافس الشرس على اقتسام الكعكة السياحية؟

على جانبٍ آخر متصل بالسياحة العربية، أفردت الصحافة العالمية هذا العام جانباً لتغطية سلوكيات وتصرفات السياح العرب الذين حقّق بعضهم قصصاً خبرية مثيرة بامتياز، من اصطياد بطةٍ في بحيرة المنتزه وطبخها على مرأى ومسمع من الناس؛ إلى التجوال «بالأرجيلة» وترك مخلفاتهم وقمامتهم التي حملت عنوان «العرب مرّوا من هنا»، ضمن مانشيت لصحف عديدة.

على موقعه الإلكتروني، أفرد مصوّر انجليزي مساحة لمعرض فوتوغرافي يصوّر العرب في لندن، ببذخهم وسياراتهم ومشترياتهم، ويتبدى فيها على وجه أخص، النساء العربيات الغارقات في حمّى التسوّق وهن يرتدين الأزياء والحقائب الممهورة بالماركات العالمية وسط المولات التجارية.

العرب في المدن السياحية ينفقون الكثير وينعشون الاقتصاد، رغم ذلك يتحوّلون إلى مادة للسخرية والتندر بسبب المبالغة في الاستعراض والسلوك غير الحضاري. ولا يُنظر إليهم اليوم بمعزلٍ عن الدعاية السلبية التي اقترنت بهم منذ سنوات وربطهم بالتنظيمات الإرهابية والربيع العربي الخائب الذي تحوّل إلى حروب أهلية وكوارث وموجات نزوح تهدّد الغرب والعالم.

إن انتقاد السياح العرب غربياً لا يختلف عن انتقاد السياسات العربية والهجوم عليها وتحميلها كل الأخطاء. فالعرب صيد سهل ومكرّر ومعتاد للصحافة الغربية، ويسهم العرب «المعاندين للتغيير» في تكريسه وتعزيزه ونشره على أكبر نطاق والإمعان في جلد ذواتنا بقصدٍ أو دون قصد.

إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"

العدد 4735 - الإثنين 24 أغسطس 2015م الموافق 10 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:13 م

      رب منفعه مضره وعلى العكس

      ربما كل المتغيرات في العالم العربي او الغربي مخاض لولاده اشياء على السطح يفيد الناس

اقرأ ايضاً